يشترك علم الإبداع مع غيره من العلوم النفسية والتربوية (وحتى ما يعرف بالعلوم الصلبة كالفيزياء) في وجود عدد قليل من الحقائق مقابل عدد كبير الافتراضات والتي غالباً ما يطلق عليها بالنظريات. أستطيع تذكر موقفين على الأقل فيما يتعلق بكم "المجهول" الذي يحيط بنا. الموقف الأول هو عندما درست مادة بعنوان "الذكاء والتحصيل" من ضمن متطلبات الحصول على درجة الدكتوراه. أحد أسباب اختياري لتلك المادة (إضافة لاهتمامي الشخصي بموضوع الذكاء وفهمه) ٬ هو اعتقادي بأن لدي معرفة جيدة عن موضوع الذكاء٬ الأمر الذي قد يسهل علي تجاوز متطلبات ذلك المقرر! لحسن (أو سوء) الحظ٬ لم يكن اعتقادي في محله٬ ذلك أنه وبنهاية الفصل الدراسي٬ أدركت أني لا أعرف إلا القليل عن الذكاء الإنساني٬ وأن مقابل الإجابات والتفسيرات التي كنت أعتقد أنني أعرفها٬ مئات من الأسئلة٬ وكم هائل من الغموض. أما الموقف الآخر فكان مع شخص قابلته في إحدى رحلاتي وكان بعمر السادسة والثمانين (التقيت معه في النادي الصحي!) ٬ حيث قال لي "لازلت وأنا بهذا العمر أدرس عن طريق التعلم عن بعد٬ حيث تمنحني هذه الطريقة في التعليم الحرية والمرونة في اختيار المواضيع التي أود تعلمها من الفلسفة إلى الإدارة وحتى الفيزياء والكيمياء." لكن ليس هذا أهمَّ ما أثار استغرابي (في عمر السادسة والثمانين ولا زال يتعلم ويمارس الرياضة بشكل يومي!). إن أكثر ما أثر فيَّ خلال ذلك الحديث هو قوله "عندما كنت في المرحلة الثانوية كنت أعتقد أنني أعرف الكثير عن هذه الحياة٬ وحينما أكملت دراسة درجة البكالوريوس اعتقدت أنني أعرف وافهم أغلب الأشياء في الحياة عموماً وفي تخصصي بشكل خاص٬ لكني أصارحك٬ وأنا في هذا العمر وبعد هذه الخبرة والمعرفة ... أعتقد أنني لا أعرف إلا القليل
قد يعتبر البعض عدم وجود الكثير من الحقائق أمراً سلبياً إلا أن العكس هو الصحيح٬ فالتعددية بحسب كوزبلت٬ بوقيتو٬ ورنكو (2011) تعطي مجالاً أوسع لفهم مختلف القضايا والقوانين المرتبطة بأي علم من العلوم من خلال مناقشة عدة وجهات نظر وتجريب أكثر من منهجية في البحث لمحاولة فهم ظاهرة ما٬ خاصة ما إذا كانت متعددة الأبعاد كالإبداع. فما الذي نعنيه عندما نتحدث عن الإبداع؟ هل نقصد بذلك العملية أو مجموعة العمليات العقلية التي يستخدمها الأفراد المبدعون للوصول إلى الفكرة الإبداعية؟ أم ربما نقصد به المنتج الملموس والذي يتميز بالأصالة والفاعلية؟ أم أننا مهتمون بالعوامل البيئية المشجعة على الإبداع كالتقبل وتشجيع الأفكار الجديدة وتوفير بيئة نفسية٬ لذا فإن من المهم أولاً الحديث عن أوجه أو جوانب الإبداع من أجل أن نكون محددين ودقيقين فيما نشير إليه عند استخدمنا لهذا المصطلح. إن الجانب الآخر المهم عند الحديث عن نظريات الإبداع هو التطرق إلى مستويات الإبداع. هل الإبداع مستوى واحد أم أن هنالك عدداً من مستويات الإبداع؟ لذا وقبل التطرق للنظريات الأساسية للإبداع٬ سوف يتم الحديث عن جوانب الإبداع ومستوياته لتسهيل فهم النظريات المختلفة حوله.
الإبداع: العملية٬ المنتج٬ الشخص٬ والبيئة
يعتبر تصنيف رودس (1961) لمجالات دراسة الإبداع هو الأكثر شهرة واستخداماً في الأبحاث. وبحسب رودس٬ فإنه يمكن تقسيم جوانب الإبداع إلى: العملية الإبداعية٬ المنتج الإبداعي٬ الشخصية المبدعة٬ والبيئة الإبداعية. ووفقاً لرودس "يشير مصطلح العملية إلى الدافعية٬ الإدراك٬ التعلم٬ التفكير٬ والتواصل." أما مصطلح الشخصية المبدعة "فيغطي معلومات حول الشخصية٬ الطباع٬ بنية الجسم٬ السمات٬ العادات٬ الاستعدادات٬ مفهوم الذات٬ نظام القيم٬ الميكانزمات الدفاعية٬ والسلوك." وقد وفر رودس تعريفاً بسيطاً للمنتج الإبداعي حينما أشار "عندما تتحول الأفكار إلى شيء ملموس٬ يطلق عليها منتج." أخيراً٬ عرف رودس البيئة الإبداعية أنها "العلاقة بين الإنسان والمحيط الذي يعيش فيه. إن المنتج الإبداعي هو نتيجة لأنواع محددة من القوى التي تلعب دوراً لدى الأفراد كلما تقدموا في العمر." وقد أضاف سايمونتون جانباً خامساً لدراسات الإبداع هو الإقناع. وما يعنيه سايمونتون هو أهمية إقناع المبدع للآخرين بأصالة وقيمة فكرته أو منتجه. فكم من الأفكار المبدعة لم يتم تقديرها نتيجة عدم اهتمام المبدع بالتواصل الفعال مع الآخرين. وإدراكاً من بول تورانس لأهمية عنصر التواصل وإقناع الآخرين بالفكرة أو المنتج الإبداعي٬ ضم في نموذجه لحل المشكلات بطرق إبداعية التواصل مع الآخرين فيما يتعلق بالنتائج. أما إدوارد دي بونو (1985) فقد أشار في برنامج المفكر البارع إلى استراتيجية الجلد٬ وهي التي تعني أنه إذا لم نعتن بطريقة عرض أفكارنا فإن روعة نتائج تفكيرنا قد تذهب هباءً. إضافة إلى العملية الإبداعية٬ المنتج الإبداعي٬ الشخصية المبدعة٬ البيئة الإبداعية٬ والإقناع٬ أضاف مارك رنكو جانباً سادساً هو الإمكانية الإبداعية ويعني به جانب دراسات الإبداع وتطبيقاته الذي يركز على كل ما يحصل قبل وصول الفرد للإنتاجية الإبداعية أو المنتج الإبداعي٬ وهو الجانب الذي قد يكون أكثر أهمية للتربويين وأولياء الأمور الذين يتعاملون مع مرحلة الطفولة حيث أن الاهتمام بالإمكانية الإبداعية يعزز فرص الفرد في الإبداع مستقبلاً والعكس صحيح.
خلاصة القول هو أن بعض نظريات الإبداع ركزت على الشخص المبدع٬ بينما اهتمت نظريات أخرى بدراسة كيفية تشكل المنتج الإبداعي٬ مع وجود بعض النظريات التي حاولت دراسة وتفسير الجوانب الأخرى للإبداع كما سوف يتم توضيحه لاحقاً بشيء من التفصيل.
مستويات الإبداع: من الإبداع اليومي حتى البروز
في إحدى المحاضرات٬ طلبت من عدد من طلبة الدراسات العليا (في حدود الخمسة عشر طالباً وطالبة) كتابة أكبر عدد ممكن من أسماء الأشخاص المبدعين الذين يمكن حصرهم خلال دقيقتين (في أي مجال من المجالات٬ من الأحياء والأموات!). يمكن القول بأن غالبية الاستجابات كانت لأسماء معروفة بإبداعها تاريخياً كشكسبير ودافنشي وامرؤ القيس وابن سينا والخوارزمي وأحمد شوقي ونابليون بونابارت ومحمد الفاتح وغيرها من الشخصيات الشهيرة (لاحظ أن هنالك فرقاً بين الشهرة والإبداع!). وإذا جمعنا جميع الاستجابات وحذفنا منها التكرار فإن جميع الأسماء لن تتجاوز المائة اسم (يمكنك تجريب هذا النشاط بنفسك). هل توجد مشكلة في ذلك؟ هل ما ذكره هؤلاء الطلبة كان خاطئاً؟ نعم للأولى ولا للثانية! إن أغلب من ذُكروا كانوا بالفعل أشخاصاً مبدعين (كانت لديهم أفكار أو منتجات أصيلة وفعّالة). إن المشكلة الأولى تكمن في مساواة الإبداع بالشهرة والبروز والإنجازات التاريخية. بحسب رنكو (2014) ٬ فإنه على الرغم من وجود علاقة (في بعض الأحيان) بين الإبداع والشهرة٬ والإبداع والبروز٬ إلا أنه يجب فصل الإبداع عن هذه المتغيرات التي قد ترتبط وقد لا ترتبط به٬ فليس كل الأشخاص المشهورين هم بحق مبدعون٬ كما أن ليس كل المبدعين مشهورون ومعروفون. الشهرة والبروز قد يأتيان في بعض الأحيان كنتيجة للعمل الإبداعي وليس لأن الإبداع يتطلب الشهرة والبروز. المشكلة الثانية في ربط الإبداع بالبروز أو الأشخاص البارزين يمكن في السؤال التالي: إذا كان كل الأفراد المبدعين الذين يتفق عليهم أغلب الناس مائة أو مائتين على مر التاريخ٬ فهل هنالك داع لدراسة الإبداع أصلاً؟! لذا يجب القول بأن الإبداع الكبير أو ما يطلق عليه في البحوث
Big-C
هو أحد مستويات الإبداع ولا يشمل البناء الكامل للإبداع. التصنيف الثاني المتداول في بحوث الإبداع هو "الإبداع اليومي" أو ما يعرف بال
Little-c
ماذا عن الأشخاص الذين يقومون بتوليد أفكار جديدة وغير تقليدية دون أن تتحول أفكارهم إلى منتجات فعلية؟ أو ماذا عن تلك المرأة المعروفة بأطباقها الشهية والتي "تبدع" في دمج مكونات الطعام لكنها لم تقم بافتتاح مطعم ناجح يتميز بأطباقه غير التقليدية؟ أو ماذا عن تلك التي تبدع في خياطة الملابس التراثية أو تصميم الأزياء عموماً من دون أن يكون لديها محل لبيع منتجاتها الإبداعية؟ وماذا عن الأشخاص الذين يبرعون في حل المشكلات التي تواجههم بشكل يومي وينجحون في الوصول إلى حلول أصيلة وناجعة لهذه المشكلات أو التحديات اليومية؟ هل نطلق على مثل هؤلاء "مبدعين" أم أنهم لا يستحقون مثل هذا الوصف؟ الإجابة هي قطعاً نعم٬ وهذا ينطبق على إبداعات الطلاب التي نراها من خلال الأنشطة الصفية واللاصفية مثل التفكير بمعادلة أخرى غير تقليدية لحل مشكلة رياضية أو عزف مقطوعة موسيقية يقيّمها الخبراء على أنها إبداعية بالنسبة لعمر الطالب (لاحظ أننا لا نقارن مستوى عزف طالب في المرحلة الابتدائية بمستوى عزف ببيتهوفن على سبيل المثال
Pro-c النوع الثالث أو المستوى الثالث من مستويات الإبداع هو ما أشار إليه كل من بوغيتو وكوفمان بال
فإذا كان الإبداع اليومي مقتصراً على الإبداع اليومي و الإبداع الكبيرهو للأشخاص البارزين تاريخياً فأين يقع المبدعون بين هذين المستويين في كل المجالات (الباحثون٬ الموسيقيون٬ الرسامون٬ إلخ) والذين تجاوز إبداعهم مستوى الإبداع اليومي لكنهم لم (وربما لن) يصلوا للبروز أو الإبداع من المستوى الكبير؟ على سبيل المثال٬ ماذا عن الذين ترشحوا لجوائز نوبل في الأدب والاقتصاد والطب والكيمياء والفيزياء لكنهم لم يفوزوا بها؟ ماذا عن الذين حصلوا على براءات اختراع لكن لسبب أو لآخر ليسوا معروفين وبارزين؟ ماذا عن مساعد ستيف جوبز الذي (ربما) كان أكثر إبداعاً من ستيف جوبز نفسه في مجال التكنولوجيا لكن لم يسمع به إلا القليل؟ إن هذا المستوى من الإبداع هو للأشخاص المتخصصين في كافة المجالات والذين تجاوزوا مستوى الإبداع اليومي من خلال أفكار ومنتجات أصيلة وفعالة٬ إلا أنه (لسبب أو آخر) لم يتم إدراك إبداعهم من قبل الآخرين على أنه إبداع من المستوى الكبير. أحد الأمثلة على الإبداع من هذا المستوى هو ذلك الباحث الأكاديمي الذي نشر أكثر من مائة أو مائتي مقالة في مجلات علمية محكمة وتم توثيق أعماله من قبل الآخرين مئات المرات كما يظهر في باحث جوجل العلمي على سبيل المثال
المستوى الرابع من الإبداع والذي تحدث عنه كل من بوغيتو وكوفمان هو الميني سي٬ ويقصد به العشور الداخلي للشخص المبدع عند المرور بخبرة إبداعية وما تضيفه هذه الخبرة للشخص المبدع. هل مررت يوماً بخبرة استبصار؟ بعبارة أخرى٬ هل فكرت يوماً بحل لمشكلة ما وأثناء الانشغال بعمل آخر (غير التفكير بحل هذه المشكلة) توصلت إلى الحل أو ما يطلق عليه بالاستبصار؟ ما الذي أضافته لك تلك الخبرة؟ بعكس المستويات التي تم ذكرها فإن الإبداع من هذا المستوى لا يدركه إلا الفرد المبدع وهو مجموعة العمليات التي يقوم بها الفرد بشكل واع أو لا واع عند التعرض لمشكلة ما.
إن إدراك وجود مستويات وجوانب مختلفة للإبداع سوف يساعدنا في فهم نظريات الإبداع التي سوف يتم التطرق إليها فيما تبقى من هذا المقال
النظريات النمائية
تركز النظريات النمائية على الشخص المبدع٬ البيئة الإبداعية٬ والإمكانية الإبداعية وتندرج من مستوى الميني-سي إلى البرو-سي. ومن المواضيع التي تهتم النظريات النمائية بالتطرق لها هي الخلفية الأسرية وحياة الأشخاص المبدعين ضمن الأسرة. كما تهتم النظريات النمائية بأساليب وطرق تنشئة المبدعين التي ترتبط بالإبداع لاحقاً كالتعرض لخبرات متنوعة والاستقلالية والاعتماد على الذات. كما وتناولت العديد من الأبحاث النمائية قضايا تتعلق ببناء أسرة المبدع كترتيب ولادة المبدع بين أخوته٬ الفترة الزمنية بين الإخوة والأخوات٬ حجم الأسرة٬ وغيرها من المتغيرات المتعلقة ببناء أو تكوين الأسرة. وقد أشار فرانسيس جالتون إلى أن الطفل الأول في الأسرة غالباً ما يحصل على فرص نمائية أكثر مقارنة ببقية أخوته. إلا أن هنالك عدداً من الدراسات النمائية التي بيّنت أن الأطفال الذين يولدون في الوسط قد يكونون أكثر إبداعاً حيث يقودهم موقعهم في الأسرة إلى التفكير في بدائل أخرى لجذب انتباه الوالدين منها التمرد على القوانين وهو ما يكون على نطاق الأسرة في مرحلة الطفولة٬ إلا أن ذلك قد يساعدهم مستقبلاً في تحدي الافتراضات والوضع الراهن لخلق بدائل وحلول غير مألوفة. ومن مجالات الأبحاث النمائية المتعلقة بالإبداع هو العلاقة بين الإبداع واللعب وكيف يكون التعليم من خلال اللعب مشجعاً ومحفزاً للطفل على التفكير بطريقة إبداعية وينمي مهارات الطلاقة والمرونة والأصالة لديه٬ وما هي خصائص وسمات البيئة المشجعة على الإبداع.
النظريات السيكومترية
لا تهتم النظريات السيكومترية (القياس النفسي) بوصف الجوانب النمائية للأفراد أو عمليات التفكير أو الدافعية بل ينصب اهتمامها على قياس الإبداع بمختلف جوانبه (العملية٬ المنتج٬ الشخصية٬ والبيئة) ومستوياته. وبما أن النظرية السيكومترية تركز على قياس الإبداع٬ فإن اهتمامها منصب على توفير مقاييس صادقة وثابته لمختلف جوانب الإبداع. ويمثل الصدق دقة قياس الأداة للغرض الذي صممت لأجله٬ أما الثبات فيعني الدقة في إعطاء نفس النتائج إذا تكرر القياس على نفس الشخص عدة مرات في ظروف متشابهة. وليس هنا المجال للتفصيل في أنواع الصدق والثبات
وعلى مر السنوات٬ طور عدد من الباحثين مجموعة من المقاييس التي تهدف إلى قياس جوانب الإبداع المختلفة. ففي جانب العملية العقلية تبرز عدد من المقاييس لعل أهمها اختبارات تورانس للتفكير الإبداعي
Torrance Tests of Creative Thinking
والتي تقيس عدداً من قدرات الإبداع هي الطلاقة والمرونة والأصالة والتفاصيل وتجريد العناوين ومقاومة الإغلاق المبكر وقائمة قوة الإبداع التي تضم ثلاثة عشر مؤشراً. وقد صدرت النسخة الأخيرة من اختبار تورانس في العام 2017. أمثلة أخرى لاختبارات العملية الإبداعية تشمل اختبارات جيلفورد٬ واختبارات والاك وكوجان٬ واختبار ميدنك للارتباطات البعيدة٬ وبطارية رنكو للإبداع (للمزيد من التفاصيل يرجى مراجعة مقال عبد الله وكراموند 2017
:أما مقاييس الشخصية المبدعة فقد تكون أكثر المقاييس تنوعاً حيث يقيس بعضها الإدراك الإبداعي مثل قائمة كاتينا-تورانس للإدراك الإبداعي
Khatena-Torrance Creative Perception Inventory
:ويقيس بعضها جوانب معينة في الشخصية كاختبار نيو للشخصية-بعد الانفتاح
Openness Scale of the NEO Personality Inventory
:كما يقيس بعضها الآخر الأسلوب والسلوك الإبداع. فيما يتعلق بقياس المنتج الإبداعي٬ فهنالك أيضاً أكثر من منهجية مستخدمة لعل أشهرها أسلوب التقييم التوافقي
Consensual Assessment Technique
والتي يقوم من خلالها الخبراء في مجال معين (كالموسيقى مثلاً) بتقييم المنتجات الموسيقية لعدد من الأشخاص في ضوء معايير محدده. كما تتوفر عدد من مقاييس التقدير للأعمال والمنجزات الإبداعية كقائمة المنتج الإبداعي
(Creative Product Inventory; Taylor & Sandler, 1972)
:ونموذج تقييم المنتجات الطلابية لريس ورنزولي
(Student Product Assessment Form; Reis & Renzulli, 1991).
أخيراً٬ ومن أجل قياس المناخ الإبداعي٬ طور عدد من الباحثين عدداً من المقاييس التي تهدف إلى قياس جوانب معينة في البيئة الإبداعية ومنها على سبيل المثال أداة قياس المناخ الإبداعي
(Assessing the Climate for Creativity; Amabile, 1995)
ومقياس بيئة العمل
(Work Environment Inventory; Amabile & Gryskiewicz, 1989).
نظريات المكونات والمراحل
تتميز نظريات المكونات والمراحل بتركيزها على العملية الإبداعية وتشمل مستويات الإبداع جميعاً من ال الميني-سي وحتى الإبداع الكبير. ولعل أشهر هذه النظريات أو النماذج هو نموذج والاس للعملية الإبداعية والذي يتألف من أربعة مراحل هي التحضير وهي مرحلة ما بعد الإحساس بالمشكلة والتي يكرس فيها المبدع وقته للبحث عن مصادر ومعلومات تتعلق بالمشكلة التي تواجهه أو التي يسعى لحلها٬ كما تتضمن هذه المرحلة تعريف المشكلة. أما المرحلة الثانية حسب نموذج والاس فهي مرحلة الاحتضان والتي تتضمن قضاء الفرد بعض الوقت من غير التفكير في المشكلة التي يسعى لحلها. وإذا ما كان الاحتضان فعّالاً ظهرت المرحلة الثالثة وهي الإشراق والتي يظهر فيها الحل بشكل مفاجئ. أخيراً٬ يقوم المبدع في المرحلة الرابعة بحسب والاس بالتحقق من الحل أو مجموعة الحلول التي نتجت عن مرحلة الإشراق.
أما النموذج الآخر الشهير تحت مظلة نظريات المكونات فهو نموذج أمابيل للمكونات. يتكون هذا النموذج من ثلاث عوامل هي ١) مهارات مرتبطة بالمجال٬ ٢) مهارات مرتبطة بالإبداع٬ و٣) الدافعية. فبحسب أمابيل٬ من أجل أن يبدع أي شخص يجب أن تكون له مهارات مرتبطة في المجال الذي يعمل فيه كالرياضيات أو الفيزياء أو الرسم. المجموعة الأخرى من المهارات الضرورية بحسب أمابيل هي المهارات المرتبطة بالإبداع كالطلاقة والأصالة والمرونة في التفكير. أما العنصر الثالث فيكمن في وجود دافعية داخلية للفرد من أجل تحقيق العمل المبدع.
النظريات المعرفية
تركز النظريات المعرفية في الإبداع على العملية الإبداعية بشكل أساس٬ وعلى الشخص المبدع. إن من الصعب التفكير في الأداء أو الإنجاز الإبداعي دون افتراض وجود أساس معرفي لهذه الإنجازات الإبداعية٬ كما أن من الصعب التفكير في الأشخاص المبدعين من دون افتراض أنهم يملكون قدرات معرفية متقدمة. أحد أشهر النظريات المعرفية هي النظرية الترابطية لميدنك. لقد اهتم ميدنك بوصف كيفية ترابط الأفكار مع بعضها البعض لتكوين استنتاجات أصيلة. وتقوم نظرية ميدنك على فكرة الارتباطات البعيدة٬ أي أن الأفراد المبدعين يختلفون عن الأقل إبداعاً في قدرتهم على توليد ارتباطات أكثر للمثير الواحد. النظرية المعرفية الأخرى الشهيرة تبرز من خلال نموذج بناء العقل لجيلفورد٬ حيث أشار جيلفورد إلى وجود ١٨٠ قدرة مختلفة من خلال نموذجه الذي واجه الكثير من الانتقادات بسبب بعض المشكلات الإحصائية التي وقع فيها لكن ما يهم هنا هو قدرات التفكير التباعدي التي أشار إليها جيلفورد في نموذجه والتي ساعدت الكثير من الباحثين في قياس العملية العقلية. أخيراً٬ تهتم النظريات المعرفية بدراسة دور الاستبصار والحدس في الإبداع وبعمليات التفكير المعرفية (كالانتباه والادراك) وما وراء المعرفية (كالتقييم والتخطيط والمراقبة).
نظريات حل المشكلات بطرق إبداعية
قد تكون النظريات والنماذج التي فسرت الإبداع على أنه نوع من أنواع حل المشكلات هي الأشهر في مجال دراسات الإبداع بل أن جيلفورد نفسه اقترح أن الأشخاص يبدعون بسبب وجود مشكلة أو كرد فعل على وجود مشكلة ما. وترتبط نظريات حل المشكلات بطرق إبداعية بجانب العملية الإبداعية والمنتج الإبداعي حيث أن المنهجية نفسها (أي حل المشكلات) تستخدم في كثير من الأحيان لابتكار فكرة أو منتج أصيل وملائم. ولعل أشهر نماذج حل المشكلات هو نموذج أوزبورن-بارنز لحل المشكلات بطرق إبداعية. يفترض هذا النموذج وجود ستة خطوات أساسية لحل المشكلات بطرق إبداعية هي: ١) التعرف على التحديات٬ ٢) تحديد المشكلة الأساسية٬ ٣) توليد حلول مقترحة٬ ٤) توليد واختيار المعايير٬ ٥) تطبيق المعايير على الحلول التي تم توليدها٬ وأخيراً ٦) تطوير خطة عمل. وقد وقد استخدم تورانس هذه المنهجية في برنامج حل المشكلات المستقبلية والذي هو بمثابة مسابقة سنوية تطرح عدداً من المشكلات المستقبلية ويستخدم الطلبة من خلالها أسلوب أوزبورن-بارنز في حل المشكلات بطرق إبداعية للتوصل إلى حلول لهذه المشكلات المستقبلية.
نظريات النظم
ترى نظريات النظم أن الإبداع ينتج من خلال تفاعل مجموعة من العناصر التي يجب أن تُأخذ جميعها بعين الاعتبار من أجل فهم أفضل للفكرة أو السلوك أو المنتج الإبداعي. وغالباً ما توظف نظريات النظم المنهجية النوعية لفهم الإبداع. وتهتم نظريات النظم بكافة جوانب الإبداع (العملية٬ الشخصية٬ المنتج٬ والبيئة) مع وجود تفاوت في الاهتمام ببعض هذه الجوانب٬ كما تركز غالباً على الإبداع الكبير. ومن أشهر هذه النظريات هي نظرية تشكزيميهاي والتي يرى من خلالها أن الإبداع ينتج من خلال تفاعل ثلاث عناصر هي المجال٬ الشخص المبدع٬ والحقل. ولتجنب أي لبس في ترجمة هذه المصطلحات٬ سوف يتم التفصيل في معنى كل منها. ويقصد بالمجال هنا جانب المعرفة كالكيمياء أو الطب أو التربية٬ أما الحقل فيقصد به الخبراء في ذلك المجال. أما العنصر الثالث فهو الشخص المبدع الذي يحاول إقناع الخبراء (الحقل) بقيمة فكرته أو منتجه. ولكي يحدث الإبداع٬ يجب أولاً على الفرد تقديم منتج أو فكرة إبداعية للخبراء في المجال. الخطوة الثانية هي قبول الخبراء في هذا المجال للفكرة أو المنتج الإبداعي المقدم من قبل الفرد المبدع. أما الخطوة الثالثة فهي تتمثل في التغير الذي يطرأ على المجال نتيجة للفكرة الإبداعية التي قدمها الفرد وتبناها ووافق عليها الخبراء في ذلك المجال.
نظريات أخرى فسرت الإبداع
تناولنا فيما سبق لمحة عن النظريات الأساسية التي فسرت الإبداع بمختلف جوانبه ومستوياته٬ إلا أن ما تم تناوله ليس إلا عينة من النظريات الرئيسة٬ وهنالك بالطبع نظريات أخرى فسرت الإبداع كالنظريات الاقتصادية لعل من أشهرها نظرية استثمار الإبداع لستيرنبيرغ ولوبارت ونظرية الطبقة المبدعة لريتشارد فلوريدا. كما توجد النظرية التطورية (الداروينية) التي تفسر الإبداع من خلال مفاهيم التباين والاحتفاظ الانتقائي. ومن أجل التعمق في موضوع نظريات الإبداع٬ يرجى مراجعة رنكو (٢٠١٤) الذي ألف كتاباً يتناول فيه كل نظرية في فصل كامل وبشكل متعمق.
نظريات الإبداع: الخلاصة
لعل أهم ما يستخلص مما سبق هو عدم وجود تفسير واحد شامل للإبداع. ذلك يرجع أساساً إلى أن الإبداع ظاهرة متعددة الأبعاد٬ حيث تشمل دراسات الإبداع الفرد المبدع وخصائصه وسماته كالاستقلالية وحب المخاطرة والانفتاح العقلي٬ كما تشمل العملية الإبداعية وهي الأدوات العقلية التي يوظفها الشخص المبدع للوصول للفكرة أو المنتج الإبداعي. كما يشمل الإبداع دراسة المنتج الإبداعي وكيفية تشكله والبيئة المحفزة للإبداع. إضافة إلى تعدد جوانب الإبداع٬ فإن الصعوبة الأخرى في وجود نظرية شاملة تكمن في أن للإبداع أكثر من مستوى واحد كما تم التطرق إليه. وبناءً على ذلك٬ ركزت بعض النظريات على العملية الإبداعية كالنظرية المعرفية٬ وركزت أخرى على الشخص المبدع والظروف المحيطة به كالنظرية النمائية. كما اهتمت بعض النظريات بالمنتج الإبداعي كنظريات النظم. أخيراً٬ ركزت النظريات السيكومترية على قياس الإبداع بكافة جوانبه ومستوياته. إن الفهم الجيد لكل هذه النظريات من شأنه توفير قاعدة صلبة لاستيعاب البناء الكامل للإبداع٬ كما أن من شأنه توليد استبصارات وارتباطات قد تكون مدخلاً لنظريات مستقبلية أكثر شمولاً ودقة
المراجع
Abdulla, A. M & Cramond, B. (2017). After six decades of systematic study of creativity: What do teachers need to know about what it is and how it is measured? Roeper Review, 39(1), 9-23.
Florida, R. L. (2012). The rise of the creative class, revisited. New York: Basic Books.
Kaufman, J. C., & Sternberg, R. J. (2010). The Cambridge handbook of creativity. Cambridge University Press.Rhodes, M. (1961). An analysis of creativity. Phi Delta Kappan, 42, 305–310.
Kozbelt, A., Beghetto, R. A., & Runco, M. A. (2010). Theories of creativity. In J. C. Kaufman & R. J. Sternberg (Eds.), The Cambridge handbook of creativity (pp. 20- 47). New York, NY, US: Cambridge University Press.
De Bono, E. (1985). Masterthinker’s handbook: A guide to innovative thinking. London, England: Penguin Books.
Runco, M. A. (2014). Creativity: Theories and themes: Research, development, and practice. San Diego, CA: Academic Press.
.