لا شيء في هذا العالم أكثر قوة من الإصرار والمثابرة، حتى الموهبة نفسها، فالعالم مليء بالموهوبين الفاشلين... إن السر يكمن في الإصرار، والإصرار وحده. هذه العبارة مقتطفة من فلم "المؤسس" والذي يحكي قصة الشخص الذي أسس بشكل فعلي سلسلة مطاعم ماكدونالدز وطور مفهوم "مطاعم الوجبات السريعة". بعيداً عن هذا الفلم الذي يوثق أحد أهم قصص النجاح في القرن العشرين، يُعرف علماء النفس الدافعية بأنها المُحرك الداخلي للسلوك، فكل سلوكيات البشر مقصودة سواء أكان ذلك بشكل واعٍ أو غير واع. فعلى سبيل المثال، أنت تختار الدراسة في مجال محدد لأنك تجد الدافع والشغف لدراسة ذلك المجال، كما أنك تختار قراءة كتاب ما دون غيره لأنك مدفوع بعنوان ومحتوى ذلك الكتاب دون غيره. كذلك فإنك تسافر لدولة دون غيرها لسبب أو عدد من الأسباب التي تدفعك نحو زيارة ذلك البلد. وهكذا، فإن الدافعية هي من تحرك سلوكنا، من اختيار مطعم ما إلى اختيار أهدافنا في الحياة... إنها—أي الدافعية – تلازمنا ومنها نتغذى
إن الدافعية مُكون أصيل في أغلب نظريات الإبداع، فبغض النظر عن مستوى معرفة الفرد بمجال تخصصه، أو قدرته على التفكير بشكل إبداعي، فليس هنالك إبداع دون وجود ذلك المحرك الداخلي—الدافعية. إن التاريخ لن يذكر أولئك الذين حصلوا على أعلى الدرجات في اختبارات الذكاء والتحصيل وغيرها، بل يذكر (وسيذكر) أولئك الذين وصلوا للإنتاجية الإبداعية بفضل دوافعهم وإصرارهم. من أفلاطون ومروراً بخالد ابن الوليد وحتى آينشتاين، لم يكن الذكاء ولا الإبداع فقط مصدر عظمة هؤلاء، بل كان قدرتهم على الصبر وتحمل الغموض والانغماس في التفكير وعدم الاستسلام. لك عزيزي القارئ أن تتأمل: ما كان ينقص العرب قبل الإسلام لكي يُنشؤوا حضارة كما كان حال حضارتي الفرس والروم؟ وكيف استطاع العرب خلال ٣٠ سنة من البعثة النبوية الشريفة أن يزيحوا هاتين الامبراطوريتين اللتين حكمتا العالم لقرون، وأن يصنعوا إرثاً حضارياً لا يزال أثره ممتداً حتى الآن؟ إنها الدافعية التي غرسها فيهم الإسلام والتي أتت مُكملةً للعقل والمنطق والقِيم العُليا. لكن من أين تأتي الدوافع؟ ليست هنالك إجابة واحدة محددة لهذا السؤال، ولكن يمكن تلخيص أهم مصادر الدافعية في ثلاث هي: الفرد، نظام التعليم، وقيم المجتمع
إن المصدر الأول والأهم للدافعية هو الفرد نفسه فبدون وجود "الشغف" لعمل شيء ما، فلن يُحرك الفرد ساكناً. كم من الطاقات لم يتم الاستفادة منها بسبب أن الشخص اختار المجال الذي لا يتوافق مع اهتماماته وميوله، أو ربما بسبب عدم معرفته بمجال شغفه، ومن هنا يأتي دور المؤسسة التعليمية. إن مفهوم التعليم يتخطى تدريس مجموعة من المعارف والحقائق التي يجب أن يتقنها الطالب في مرحلة ما إلى مفهوم "نثر الخبرات." إن نثر الخبرات يعني تعريض الطلبة لمجموعة من المواقف في مجالات متنوعة كزيارة المتاحف والمستشفيات والمصانع، والتعرف على الثقافات المتنوعة، وممارسة الألعاب الذهنية والرسم والفنون، ودراسة التاريخ والفلسفة، إضافة لما يتم تقديمه من خلال المقررات الدراسية. إن التنوع في تعريض الطلبة لخبرات مختلفة من شأنه تحديد المجال الذي يجد فيه الطالب نفسه وذاته. لك أن تتخيل عزيزي القارئ، ما الذي قد يصنعه جيل يعمل كل فردٍ فيه في المجال الذي يجد الشغف والدافع له ويتناسب مع قدراته وميوله؟ أخيراً فإن لقيم المجتمع دورٌ كبيرٌ في تعزيز الدافع نحو الإبداع والابتكار، وهنا يأتي دور الدوافع الخارجية والتي يتم تغذيتها من خلال المبادرات والجوائز والحوافز. تشير أغلب النظريات الحديثة حول الدافعية أن الأصل في الإنجازات الإبداعية هي الدوافع الداخلية (ولكن) إذا ما تكامل الدافع الداخلي للإنجاز مع الحافز الخارجي، فإن ذلك يقود لأعلى مستويات تحقيق الذات. إن أحد قيم المجتمع التي تصنع الفارق هي مكافئة التميز، وتعزيز السلوك والفكر الإبداعي من خلال المبادرات والجوائز الفردية والجماعية. الخلاصة: إن أردت مجتمعاً مبدعاً فابدأ بالدافعية، فهي مصدر العظمة وصانعة العظماء
د. أحمد محمد العباسي