هل حان الوقت لوزارة للابتكار الحكومي في مملكة البحرين؟

إن من أهم أعمال عالم الاجتماع الأمريكي الشهير روبيرت ميرتون هي نظريته حول كيفية تطور النُظم والابتكارات البشرية. بحسب ميرتون، فإن تطور الابتكارات البشرية ليست نتاجاً للمنطق ولا للصدفة، بل السبب يعود إلى أن لكل اختراع وقته الزمني بحيث يجب أن تتهيأ مجموعة من الظروف، وهو ما يفسر أن بعض الابتكارات احتاجت لمئات السنين بينما بعضها الآخر احتاج لفترة أقل من ذلك بكثير. إن هذا الافتراض قابل للتطبيق عند تأملنا لطريقة تطور المجتمعات، فالأمور يجب أن تأخذ بعضاً من الوقت حتى يتحقق النضوج. قِس على سبيل المثال العمل الحكومي في دول العالم، فمن خلال استعراض بسيط سيجد القارئ أن هنالك وزارات وجهات حكومية كانت موجودة قبل خمسين سنة من الآن، وهي ليست موجودة اليوم، وبعضها بقيت، ولكن المفهوم والخدمات التي تقدمها تلك الوزارة أو الهيئة قد يكون تغير بشكل جذري

عندما حصلت مملكة البحرين على الاستقلال في العام ١٩٧١ كان لدينا ما يقرب من ١٠ وزارات كانت كافية في معطيات تلك المرحلة لإدارة الدولة وتنظيم كافة مناحي الحياة وتوفير الحياة الكريمة للمواطنين. مع الوقت ازداد عدد الوزارات نظراً لاحتياجات كل مرحلة حتى وصل عدد الوزارات في الحكومة الجديدة بقيادة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، ولي العهد، نائب القائد الأعلى، رئيس مجلس الوزراء إلى ما يقرب من ٢٠ وزارة. لِنعد الآن لفكرة روبيرت ميرتون حول تطور النظم والابتكارات وأهمية السياق والوقت، ففي العام ١٩٧١ لم تكن هنالك حاجة ماسة على سبيل المثال لاستحداث وزارة للسياحة، ولم تكن هنالك حاجة لتعيين وزير للتنمية المستدامة حيث لم يكن مفهوم التنمية المستدامة متداولاً بشكل واسع في تلك الحقبة حتى في الدول العظمى. إذاً فالفكرة من تجدد الوزارات تحكمها عناصر متعددة أهمها الوقت والأولوية والسياق

فيما يتعلق بفكرة المقال، فإن وجود وزارة للابتكار الحكومي ليست جديدة بشكل كلي حول العالم فهنالك العديد من المبادرات الإقليمية والعالمية. على سبيل المثال، هنالك وكالة الابتكار الوطنية في المملكة المتحدة، وفي كندا، هنالك وزير للابتكار والعلوم والصناعة، وفي دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة هنالك استراتيجية وطنية للإبداع بالإضافة إلى مركز محمد بن راشد آل مكتوم للابتكار الحكومي. قد يكون لدى القارئ نوع من التحفظ المفهوم فيما يتعلق بفكرة استحداث وزارة للابتكار الحكومي، وهو أمر مقدر وتجب مناقشته لأن الأمور تبنى بالقناعات. المصدر الأول للتحفظ قد يكون مرتبطاً بالشق المالي وما إذا كانت الدولة بحاجة لإضافة وزارة جديدة بميزانية جديدة في ضوء سعي حكومة مملكة البحرين إلى ترشيد الإنفاق. أما المصدر الثاني فقد يكون عدم القناعة بالفكرة من أصلها، حيث قد يعتقد البعض أنها نوع من الترف. سوف أقوم بمناقشة هاتين الجزئيتين فيما تبقى من هذا المقال

بدايةً، فإن الابتكار هو أحد الركائز الأساسية في رؤية البحرين ٢٠٣٠، لذا فنحن لا نناقش أمراً كمالياً. إن الإبداع في القرن الحالي لم يعد ضرورة للنجاح أو التميز كما كان قبل قرن من الآن، بل هو وسيلة (للنجاة) في ظل وضع عالمي غير مستقر، الأمر الذي يتطلب إيجاد أفكار من خارج الصندوق لحلول من شأنها رفع القدرة الاقتصادية للمملكة، خاصة في جزئية تنويع الاقتصاد وخلق استثمارات غير تقليدية. إن أحد أهداف أي وزارة للابتكار الحكومي هي نشر ثقافة الابتكار بشكل شامل ومدروس حتى يُمكن كل موظف ومسؤول حكومي من أداء عمله بطريقة مختلفة وأصيلة—باختصار أن نصل لمرحلة أن نقوم بالأشياء العادية بطريقة غير عادية. لحسن الحظ، فقد قطعت مملكة البحرين خطوات رائعة في جزئية خلق ثقافة الابتكار، وقد تكفي الإشارة للمبادرة الاستثنائية لصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة رئيس مجلس الوزراء حفظه الله، وهي مسابقة الابتكار الحكومي (فِكرة). لقد حان الوقت للانتقال للمرحلة الثانية وهي نشر ثقافة الابتكار لدى جميع العاملين في المؤسسات الحكومية بشكل ممنهج ومقصود وفق مؤشرات أداء قابلة للقياس والمراجعة، بحيث يكون لدينا مؤشرنا الخاص للابتكار الحكومي، إلى غيرها من المهام التي من المتوقع أن تسند لها وزارة الابتكار الحكومي لتكون مملكة البحرين جاذبة للطبقة المبدعة. إن مهام مثل هذه الوزارة يجب أن تشمل نشر ثقافة الابتكار والإبداع في العمل الحكومي، وتنمية الإبداع من خلال أحدث البرامج، وقياس مؤشرات الأداء التي يتم الاتفاق عليها، وفي نفس الوقت، فمن المتوقع أن يكون هنالك قسم أو جهة في وزارة الابتكار معنية بتنفيذ مبادرات لجذب الأشخاص المبدعين حول العالم

نأتي الآن للحديث عن الشق الاقتصادي، وللاختصار، فإن فكرة مثل هذا النوع من الوزارات يجب أن تكون غير تقليدية خاصة أننا نتحدث عن الإبداع والابتكار. إن تصور الكاتب هو أن تكون مثل هذه الوزارة وزارة افتراضية كوزارة اللا مستحيل في دولة الإمارات العربية المتحدة الشقيقة وغيرها من الوزارات غير التقليدية في دول العالم المتقدم. قد تحتاج لمقر يعكس اسم الوزارة المقترحة (الابتكار) ولكن ليس بالضرورة أن يكون مبنى هائلاً وتُصرف عليه مبالغ طائلة. الفكرة هنا هي الفاعلية وأن تكون مثل هذه الوزارة مسهلة للإبداع في العمل الحكومي بشكل ممنهج، وأن تقوم بقياسه وتطويره باستخدام أدوات علمية موثوقة ومبادرات شاملة، بحيث تكون الجهة الوحيدة المسؤولة عن كافة المبادرات الخاصة بالابتكار والإبداع في المجتمع. حين درست القيادة والابتكار في كلية إدارة الأعمال في جامعة هارفرد، كان المبنى متواضعاً ولم تكن هنالك سبورات ذكية، بل بالعكس كان المحاضرون يستخدمون الطباشير! نعم في جامعة هارفرد. إن ما كان يجذب في المكان هو الجوهر: التخطيط المثالي، وهو ما تحتاج إليه مثل هذه الوزارات غير التقليدية

لدي ثقة تامة أن الإرادة موجودة لدى قيادتنا الرشيدة وهي ليست وليدة اليوم فيما يتعلق بأولوية الإبداع والابتكار لمستقبل البحرين، وذلك كما أسلفت يبدو واضحاً في رؤية المملكة ٢٠٣٠. كما أميل أن المعطيات تكاد تكون قد اكتملت لإنشاء مثل هذه الوزارة وفق تصور روبرت ميرتون، حيث إنه بعد أكثر من خمسين سنة على الاستقلال والخبرة في العمل الحكومي، ومن خلال الأدلة التي نشاهدها على المردود النوعي للاهتمام بالإبداع والابتكار على العمل الحكومي وعلى تحسين حياة المواطنين، فقد يكون هذا هو الوقت المثالي لمثل هذه المبادرة، سائلاً الله لمملكتنا الحبيبة كل التطور والازدهار

 

د. أحمد محمد العباسي

رئيس قسم تربية الموهوبين

أستاذ الموهبة والإبداع المشارك، جامعة الخليج العربي