الإبداع: خاص أم عام؟

مقدمة

بعد أن كان الإبداع٬ كما وصفه جيلفورد في خطابه الرئاسي في مؤتمر جمعية علم النفس الأمريكية عام ٬١٩٤٩ ظاهرة نادرة التداول لدى علماء النفس٬ أصبح موضوعاً يتداول ليس بغزارة فقط٬ بل بتعمق وتفصيل مذهلين. أحد هذه التفاصيل التي تناولها علماء الإبداع خلال العشرين سنة الأخيرة يتلخص في السؤال التالي: هل الإبداع ظاهرة خاصة أم عامة؟ بلغة أخرى٬ هل هنالك إبداع مرتبط بكل مجال من المجالات (إبداع خاص في الفيزياء٬ إبداع خاص في الإدارة٬ إبداع خاص في الفنون٬ ...الخ) ٬ أم أن الإبداع عام المجال٬ فالمبدع/المبدعة في جانب أو مجال ما٬ لديه/لديها القدرة على الإنتاج الإبداعي في مجالات أخرى؟ يعتبر هذا الموضوع من ضمن الموضوعات (الساخنة) والتي يدور حولها الكثير من الجدل بين فريقين٬ أحدهما يزعم بأن الإبداع عام وليس مرتبطاً بمجال محدد وأن العمليات العقلية التي يوظفها شخص ما في مجال كتقنية المعلومات هي نفسها العمليات العقلية التي يستخدمها شخص آخرٌ مبدع في مجال الفيزياء الكمية. أما الفريق الآخر فيرى أن لكل مجال خصوصيته فيما يتعلق بالمهارات والعمليات العقلية المرتبطة بالإبداع والتي يحتاج إليها الفرد المبدع

بالطبع هنالك العشرات من المقالات التي تناولت هذا الموضوع لعل أشهرها مقالين خصصتهما مجلة بحوث الإبداع (تجد رابط المجلة في الأسفل) في العام ١٩٩٨. المقال الأول كتبه أحد أشهر المدافعين عن وجهة النظر القائلة إن الإبداع خاص ويختلف من مجال لآخر٬ وهو جون بير بعنوان "قضية تخصصية المجال في الإبداع". أما المقال الثاني فكان لجوناثان بلاكر بعنوان "حذار من الاستنتاجات البسيطة: حالة المحتوى العام للإبداع"٬ ويدافع فيها عن وجهة النظر المقابلة (أي أن الإبداع عام المجال). كما أسلفت٬ فإن هنالك العديد من المقالات التي كُتبت عن هذا الموضوع٬ لكنني اخترت أحد هذه المقالات لمناقشتها وهو الفصل التاسع من كتاب "الإبداع: من الإمكانية حتى التحقق" ٬ والمحرر من قبل ستيرنبرغ وجريجورنكو وسنجر (٢٠٠٤) وعنوانه "لماذا الإبداع هو مجال عام٬ لماذا يبدو أنه مجال خاص٬ ولماذا التفرقة غير مهمة؟". لذا فإن هذه المدونة هي تلخيص للأفكار الواردة في ذلك الفصل بالأساس٬ مع دمج أفكار أخرى وردت في مراجع أخرى ذات صلة وشيء من أفكار الكاتب

!مشكلة إما أو

تخيل لو كان ابن سينا موسيقياً وكان بيتهوفن طبيباً٬ هل كنا لا نزال نذكر هذين الاسمين حتى يومنا هذا؟ هل كان ابن سينا ليبدع في مجال الموسيقى لو اختار هذا المجال؟ (لاحظ أن قضية الاهتمام هي ذات علاقة بقضية الإبداع كمجال عام أو خاص). وهل كان بإمكان بيتهوفن أن يبدع في مجال الطب لو كانت لديه الدافعية لذلك؟ (سوف تتم مناقشة العلاقة بين الدافعية والإبداع كمجال عام أو خاص أيضاً). إن الإجابة على هذه التساؤلات يعتمد على موقعك أو الفريق الذي تنتمي إليه. فإذا كنت من الذين يرون أن الإبداع ظاهرة عامة فسوف يكون جوابك بالإيجاب٬ أما إن كنت من أنصار نظرية الإبداع الخاص فسيكون الجواب ... كلا

لا أعلم لماذا يميل البشر (أو العقل البشري) بشكل عام لرؤية أو تصور الأمور على أنها (إما هذا أو ذاك). هنا أذكر أحد الكتب المميزة لإدوارد ديبونو عنوانه "أنا على صواب وأنت على خطأ" (تجد المرجع في الأسفل) ويوضح فيها عدداً من الأسباب لهذه الظاهرة (أما أبيض أو أسود!) ٬ منها عادات التفكير التقليدية التي نكتسبها مع الزمن وتأثير أو غلبة العاطفة على المنطق في بعض الأحيان. إضافة إلى ما ذكره ديبونو٬ أعتقد شخصياً أن هذه العادة (عدم القدرة على رؤية المنطقة الرمادية) يرجع لأمرين أو مهارتين تتعلقان بالإبداع هما المرونة والإغلاق المبكر. إن الناس الأقل مرونة غالباً ما يميلون إلى تبني رأي ما ومعارضة أي رأي آخر. ربما يعود ذلك إلى تأثير الخبرة أو ربما لأن المرونة قد تفقدك بعضاً من معتقداتك حتى وإن كنت تعتقد داخلياً أنها غير صحيحة! أما الإغلاق المبكر فهي فكرة مأخوذة من علم نفس الجشطالت ومفادها أن الأشخاص الأقل إبداعاً يميلون للحكم السريع على الأمور لتجنب شعور الغموض (غير المحبب). ما أعجبني في هذا المقال الذي سوف ألخصه فيما تبقى من هذه المدونة٬ هو الرأي الذي تبناه كل من بلاكر وبوقيتو وهو أن الإبداع من الممكن أن يكون خاصاً بمجال/مجالات معينة٬ ومن الممكن أن يكون عاما

مقدمة الفصل

يبدأ الفصل بذكر قصة حدثت مع أحد الكاتبين (جوناثان بلاكر) ٬ عندما كان في أحد المقاهي يتحدث مع زوجته حول الإبداع (حتى في الكوفي شوب!) ٬ فقاطعه أحد الجالسين وهو رجل كبير في السن واستأذنه بالدخول في هذا النقاش. يَذكر هذا الرجل المسن أنه كان يدرس تخصص طب الأسنان في الولايات المتحدة الأمريكية قبل عقود وكان وقتها محبطاً من استخدام أطباء الأسنان لجهاز الثقب (الدريل باللهجة العامية!). لذا فقد قام بتصميم جهاز بديل على الرغم من عدم وجود أي تدريب أو خبرة مسبقة لديه أو حتى اهتمام بالهندسة الالكترونية حتى يصمم مثل هذا الجهاز. في ذلك الوقت٬ تعاطف أساتذته معه وشاركوه إحباطهم من استخدام هذا النوع من الأجهزة التقليدية لكنهم نصحوه "بالتركيز على الأشياء التي يعرفها" لا "الأشياء التي لا يفهمها" (هل توجد طريقة أفضل من هذه لقتل الإبداع؟!). يكمل هذا الطبيب قصته ... "تخرجت من كلية الطب وبدئت ممارسة طب الأسنان بعد هذا الموقف بسنوات لكن كان شعور الإحباط والإزعاج كان لا يزال يراودني حيال استخدام هذا النوع من الأجهزة التقليدية٬ لذا فقد قمت بإعادة زيارة فكرتي (غير المقدرة). لكن في هذه المرة قمت بالاستعانة بمهندسين إلكترونيين لتنقيح الفكرة إلى أن تم تسجيل فكرتي كبراءة اختراع". هنا سأله بلاكر ما إذا كانت فكرته ناجحة (أو ما نطلق عليه في تعريفات الإبداع بالفاعلية) ٬ فكان جوابه أنه وبعد حصوله على براءة الاختراع تقاعد سريعاً وأمضى وقته في السفر حول العالم مستمتعاً بما جناه من نتاج فكرته المبدعة. وقد ختم قصته بالقول "الناس الذين لا يعرفون شيئاً هم الأكثر إبداعاً"

قد تدعم هذه القصة وجهة نظر الذين يقولون إن الإبداع ظاهرة عامة بدليل أن هذا الطبيب قام بابتكار جهاز على الرغم من قلة/عدم وجود خبرة سابقة في الالكترونيات وصناعة الأجهزة٬ لكن هل يمكن تعميم هذا الموقف أو الحدث؟ تظهر نتائج بعض الدراسات المتعلقة بالعصف الذهني أن وجود مجموعة متنوعة من الأفراد من تخصصات مختلفة من شأنه زيادة إمكانية التوصل إلى أفكار غير تقليدية وغير مألوفة وهو ما قد يدعم أنصار اتجاه الإبداع العام أيضاً. كما أن النظريات الضمنية في الإبداع تبدو أنها تدعم الذين يرون أن الإبداع ظاهرة عامة بدليل أنه وعند سؤال غير المتخصصين من مجالات مختلفة أسئلة مثل من هو الشخص المبدع أو ما هي خصائص الأفراد المبدعين٬ فإن الإجابات غالباً ما تكون متشابهة بغض النظر عن المجال. إضافة لذلك يدعم أنصار هذا الاتجاه وجهة نظرهم بدراسة الأشخاص الذين برعوا في أكثر من مجال أو ما يطلق عليه (بتعدد القدرات).

في المقابل٬ بنى أصحاب اتجاه الإبداع الخاص موقفهم على عدد من الأدلة. أول هذه الأدلة هو ما أشارت إليه بعض الدراسات في أن الارتباط بين المقاييس الأدائية في الإبداع في مجالات مختلفة هي علاقة ضعيفة. أما الدليل الآخر الذي ساقه أنصار هذا الاتجاه هو أن التدريب على الإبداع في مجال محدد (كالهندسة مثلاً) يبدو مفيداً وفعالاً للمجال الذي تم التدريب فيه فقط ولا يمكن تعميم فوائد هذا النوع من التدريب لمجالات أخرى

يرى بلاكر وبوقيتو أن التعريف غير المحكم أو الغامض للإبداع قد يكون السبب وراء مثل هذا الجدل٬ لذا فإنهم يطرحون تعريفهم للإبداع والذي ينص أن الإبداع هو "التفاعل بين القدرة والعملية والتي من خلالها يقوم الفرد (أو مجموعة من الأفراد) بتوليد منتج أصيل ومفيد ذو علاقة بالسياق الاجتماعي". ولهذا التعريف عدد من الجوانب نتناول كلاً منها بشيء من التفصيل

التفاعل بين العملية والقدرة

بحسب بلاكر وبوقيتو فإن الإبداع ينتج عبر التفاعل بين القدرة الإبداعية والعملية الإبداعية. والقدرة هنا تختلف عن (السمة) كون الأولى قابلة للتغير بالزيادة أو النقصان٬ وهي تعني الاستعداد الداخلي للفرد والذي يتأثر بالعمليات العقلية التي تجري في الدماغ. ويمكن التفكير في العملية الإبداعية على أنها المحرك/المفعل للقدرة الإبداعية. هذا النقاش هو ذو صلة بدور المعلم بشكل عام٬ ودور معلم الموهبة بشكل خاص٬ فيما يتعلق بأهمية التركيز على تنمية مهارات التفكير الإبداعي لدى أولئك الذين يظهرون قدرات عالية في مجال أو أكثر. إن توافر القدرة العالية سواء أكانت قدرات مرتبطة بالذكاء (أي التفكير التقاربي) أو الإبداع (أي التفكير التباعدي) شيء٬ وتفعيل هذه القدرات شيء آخر. لذا فإنه يجب التركيز على تعليم العمليات العقلية المرتبطة بالإبداع بشكل صريح من أجل ضمان التفاعل الأمثل بين القدرة والعملية

تجدر الإشارة هنا بأن ناتج تعليم العملية الإبداعية يختلف من شخص لآخر٬ فعلى الرغم من أننا نقوم بتدريب الاستراتيجيات نفسها (كالعصف الذهني٬ حل المشكلات بطرق إبداعية٬ إيجاد المشكلة٬ ... الخ) ٬ إلا أن نواتج أو مخرجات هذا التدريب تختلف من شخص لآخر. على سبيل المثال٬ يمكنك تدريب ١٠ أشخاص على استخدام استراتيجية سكامبر لتوليد أفكار ومنتجات إبداعية إلا أن منتجات هؤلاء المتدربين سوف تكون مختلفة في الغالب على الرغم من استخدامهم لنفس الاستراتيجية (بعضهم قد يفكر في حل لمشكلة في الرياضيات بينما قد يفكر آخر في حل مبدع لأحد المشكلات اليومية كالازدحام مثلاً). هذا المثال قد يدعم أنصار الفريق الذي يرى أن الإبداع عام وليس مرتبطاً بمجال معين

المنتج الإبداعي المحسوس

الأمر الآخر الذي يركز عليه تعريف بلاكر وبوقيتو هو أهمية توفر منتج إبداعي ملموس أو قابل للملاحظة. إن من الصعب الحكم ما إذا كان شخص ما مبدعاً أم لا إذا لم يستطع هذا الشخص توليد منتج يمكن ملاحظته سواء أكان هذا المنتج مادياً ومحسوساً (أداة أو جهاز أو تطبيق) أو عبارة عن فكرة إبداعية يمكن تطويرها لاحقاً على شكل منتج مادي ومحسوس. وتوجد أكثر من طريقة لتقييم المنتجات الإبداعية لعل أشهرها تقنية التقييم التوافقي والتي يتم من خلالها تقييم المنتجات الإبداعية من قبل متخصصين في كل مجال

الأصالة والفائدة/المنفعة

كما تمت الإشارة إليه مسبقاً٬ فإن هنالك إجماعاً على معياريين للحكم على الفكرة أو المنتج الإبداعي وهما الأصالة والفاعلية/المنفعة٬ وهذا ما يتفق عليه بلاكر وبوقيتو في تعريفهم. من الجدير بالذكر أن الإبداع يحتاج لتوافر هذين المعيارين معاً٬ فتوفر فكرة أصيلة لكنها غير فعالة/مفيدة ليس كافياً٬ كما أن توفر منتج فعال لكنه لا يتسم بالأصالة لا يمكن أن نطلق عليه (منتجاً إبداعياً)

السياق الاجتماعي

إن التركيز على الأصالة والفائدة واغفال السياق الاجتماعي الذي ظهر فيه العمل الإبداعي يجعل من الإبداع أمراً محدوداً ويجعله غامضاً. فعند الحديث عن الفاعلية أو المنفعة فإن السؤال الذي يبرز هو مفيد لمن؟ فبعض الأعمال الإبداعية قد تكون مفيدة (أو يتم الحكم عليها من قبل الآخرين على أنها مفيدة) في سياق أو ثقافة ما٬ لكن لا يتم إدراكها على أنها مفيدة أو فعالة في سياق أو ثقافة أخرى. كذلك الأمر بالنسبة للأصالة. من الذي يحكم على أصالة الفكرة؟ هل ما يعتبر منتجاً أصيلاً لطالب في الصف الرابع في مادة العلوم يمكن إدراكه أنه أصيل للجنة اختيار جائزة نوبل في العلوم؟ إن تفسير أو تصور الإبداع على أنه "آينشتاين" أو "ابن سينا" أو الخوارزمي" أو سقراط" أو "شكسبير" (باختصار أنه الإبداع الكبير) لا يخدمنا كثيراً٬ خاصة التربويين. ما يجب أن نركز عليه في المدارس هو "تنمية الإمكانية الإبداعية" التي قد تتحول (وقد لا تتحول) في يوم ما إلى إنتاجية إبداعية. تذكر أنك لا تستطيع التنبؤ الدقيق بالمستقبل مهما بذلت من جهد (هل سيطبق أبنائك القيم التي تحاول زرعها فيهم ليل نهار في المستقبل؟). كذلك الأمر بالنسبة للإمكانية الإبداعية. فكل ما تستطيع فعله هو الجهد (أي تنمية الإبداع بطريقة علمية مدروسة). وقد أثبتت نتائج بعض الدراسات أن اختبارات الإبداع (التفكير التباعدي بشكل خاص) أكثر تنبؤاً بالإنجاز المستقبلي من اختبارات الذكاء. خلاصة القول أنه من الخطأ إغفال السياق الاجتماعي عند الحديث عن الإبداع الخاص والعام٬ فلا تتوقع من طالب في الصف السادس أن يكون متخصصاً في مجال محدد وأن ينتج فكرة أو منتجاً إبداعياً في ذلك المجال المحدد٬ فالوصول للتخصصية يتطلب الكثير من الوقت والخبرة والممارسة. لذا فإن تقدير الإبداع من المستوى الصغير (ليتل-سي) أو الميني-سي مهم كأهمية تقدير الإبداع الكبير

الإبداع كظاهرة عامة وخاصة

هل يمكن أن يكون الإبداع خاصاً وعاماً؟ إن من النظريات التي فسرت (ولو بشكل غير مباشر) الإبداع أنه خاص وعام هي نظرية أمابيل للإبداع والتي ترى من خلالها أن الإبداع ينتج من تفاعل ثلاثة مكونات: ١) الدافعية٬ ٢) المهارات المرتبطة بالإبداع (الطلاقة والمرونة والأصالة وإيجاد المشكلات والعصف الذهني ... الخ) ٬ و٣) المهارات مرتبطة بالمجال. إذا٬ حسب وجهة نظر أمابيل٬ فإن الشخص المبدع يحتاج إلى توظيف مهارات التفكير الإبداعي (وهو الجانب العام) ٬ ويحتاج إلى توظيف مهارات مرتبطة بالمجال الذي يبدع فيه (وهو الجانب الخاص) ٬ كما أنه يحتاج إلى توفر الدافعية (خاصة الدافعية الداخلية) من أجل الوصول إلى الإنتاجية الإبداعية. إذا (بحسب أمابيل) ٬ فإن من الممكن أن يكون الإبداع عاماً وخاصاً في نفس الوقت. لكن قد يتساءل البعض: لماذا يبدع الأشخاص في مجالات محددة؟ لماذا لا يستطيع المبدع في الفيزياء (كأينشتاين) أن يكون مبدعاً في الموسيقى أو الكيمياء أو غيرها من المجالات؟ الإجابة هي الوقت والاهتمامات والدافعية. كم من الوقت احتاج اينشتاين ليصبح متخصصاً في الفيزياء؟ وكم من الوقت استغرق ليصل إلى قمة إنجازاته؟ والسؤال الثالث: ماذا تبقى لديه من وقت ليبدع في مجال آخر! القضية الأخرى تتعلق بالاهتمامات والاهتمامات متعلقة بالوقت أيضاً (ليس لغزاً). قد يكون التبسيط من خلال التساؤل التالي: لو كان لدى أينشتاين وقت (١٠ سنوات زيادة!) لكنه غير مهتم بالموسيقى أو الكيمياء هل كان ليبدع في هذه المجالات؟ حتى وإن كان الشخص متعدد الاهتمامات فإن الوصول للإبداع من المستوى الكبير يتطلب الكثير من الوقت والدافعية. أخيراً٬ فإن الوصول للإبداع من المستوى الكبير (الذي غالباً ما يكون خاص المجال) يتطلب توفر مستويات عالية من الدافعية٬ فهل يمكن للشخص توفير هذا المستوى العالي جداً من الدافعية في أكثر من مجال؟ أذكر هنا ما قاله بول تورانس عن بداياته في علم النفس وأنه كان يخطط لدراسة الإبداع ثم الانتقال إلى مجال آخر (بناء آخر بتعبير علماء النفس) ٬ لكنه يذكر أن دراسة الإبداع استهلكت كل وقته فركز على كيفية قياس الإبداع وتنميته.

التضمينات النظرية والبحثية

يعرض بلاكر وبوقيتو نموذجاً لمحاولة فهم خصوصية-عمومية الإبداع ويتكون هذا النموذج من بعدين: ١) العمر والتجربة و٢) الاهتمام والالتزام بالمهمة٬ كما يوضح الشكل التالي.

1.jpg

ففي بداية العمر يكون مجال الإبداع عاماً بشكل واضح ويتجلى في صور حل إبداعي لمشكلة يومية لكنها لا تتعلق بمجال محدد نظراً لأن الأفراد في هذا العمر لم يتشكل لديهم الاهتمام بمجال محدد. ومع التقدم في العمر تتشكل الاهتمامات لدى الأفراد لكنها في الغالب تكون متنوعة٬ وقد يظهر الإبداع في أكثر من مجال أو أكثر لكنه لا يزال عاماً (غير محدد بمجال محدد). مع الزيادة في التقدم في العمر تتحدد الاهتمامات بشكل أوضح ويتخصص كل فرد (كما في الدراسات الجامعية) في مجال واحد (في الغالب يستطيع الشخص دراسة تخصص واحد) وتزيد فرص الإبداع لديه كلما زاد اهتمامه ودافعيته بالمجال المحدد الذي يدرسه. أما المستوى الرابع فهو مستوى الثبات/الرسوخ٬ وفيه يكون الشخص قد أمضى فترة طويلة في دراسة المجال المحدد الذي اختاره حسب اهتمامه ويبدأ في التعمق بشكل أكبر فيه بحيث يتركز اهتمامه وتتركز دافعيته في هذا المجال مما يقلل فرص الانتقال إلى مجال آخر. إن الكثير من السطحية أو العمومية قد لا تكون جيدة للإبداع كما أن المستوى العالي من الثبات/الرسوخ يجعل من الشخص محدوداً في مجال واحد٬ لذا فإن المنطقة المثالية هي ما بين العمومية والخصوصية بحسب بلاكر وبوقيتو

التضمينات التربوية

ما الأمر المهم/المفيد من هذا النقاش حول خصوصية-عمومية الإبداع بالنسبة للمعلمين بشكل عام ولمعلمي الموهبة بشكل خاص؟ إن أكثر ما يهم هو الحرص والتركيز على نقل أثر التدريب على الإبداع أو مهارات التفكير الإبداعي. إن الكثير من العمومية (أو السطحية) عند التدريب على مهارات التفكير الإبداعي قد لا تساعد المتعلم على نقل أثر التدريب إلى مجال أو محتوى معين٬ لذا فإن من المهم أن تكون الأمثلة والتدريبات مرتبطة بمشكلات واقعية يعيشها الطالب وتمثل أهمية (مشوقة) بالنسبة له وأن تكون هذه المشكلات المطروحة متنوعة وفي أكثر من مجال. إن مثل هذا الكلام مدعم بالأبحاث ولعل أكثرها ارتباطاً هنا هي نتائج دراسات رنزولي حول برنامج الإثراء المدرسي الشامل والذي يتكون من ثلاث مراحل أساسية. ففي المرحلة الأولى والتي يطلق عليها (نثر الخبرات) يقوم المعلم بتوسيع اهتمامات الطلبة من خلال تعريضهم لخبرات متنوعة في كافة المجالات (الرياضيات والجغرافيا والتاريخ والكيمياء وغيرها). ومع الوقت والتجربة تتشكل الاهتمامات تدريجياً وهنا (أي المستوى الثاني) يخضع الطلبة للتدريب على استخدام مهارات تفكير متنوعة تشمل التفكير الإبداعي والناقد والتحليلي (الجانب العام من الإبداع). أما المرحلة الثالثة فيقوم من خلالها الطلبة الموهوبون بتوظيف المهارات التي اكتسبوها في المرحلة الثانية في مجالات محددة (الجانب الخاص من الإبداع)

خلاصة

الإبداع يمكن أن يدرك على أنه عام وخاص

أحد أسباب خصوصية المجال في الإبداع هو أن الأفراد غالباً ما يختارون مجالاً واحداً للإبداع وهذا يرجع لعدد من العوامل منها الدافعية والاهتمام والوقت وربما الحظ

من الممكن تعليم وتنمية الإبداع بشكل مستقل (خارج المنهج) ومن خلال المنهج الدراسي (في مادة دراسية أو مجموعة من المواد الدراسية

عند التدريب على الإبداع (حتى وإن كان بشكل مستقل) فإن من المهم التركيز على تشجيع الطلبة ليفكروا في كيفية تطبيق هذه الاستراتيجيات في مواقف حياتية حقيقية وفي كيفية نقل أثر التدريب من مجال لآخر.

بدلاً من النقاش الطويل (وربما غير المجدي) حول عمومية - خصوصية الإبداع٬ خاصةً للتربويين الذين يتعاملون مع الطلبة بشكل مباشر٬ فإن من الأجدر التركيز على تعريض الطالب لخبرات متنوعة وسياقات مختلفة بحيث يطبقون إبداعهم في أكثر من مجال (مثال: برنامج الإثراء المدرسي الشامل لرينزولي

المراجع

http://www.tandfonline.com/loi/hcrj20

Baer, J. (1998). The case for domain specificity of creativity. Creativity Research Journal, 11(2), 173-177.

De Bono, E. (1991). I am right, you are wrong: From rock logic to the water logic. New York, N.Y: Viking.

Plucker, J. A. (1998). Beware of simple conclusions: The case for content generality of creativity. Creativity Research Journal, 11(2), 179-182.

Plucker, J. A., & Beghetto, R. A. (2004). Why creativity is domain general, why it looks domain specific, and why the distinction does not matter. In R. J. Sternberg, E. L. Grigorenko, & J. L. Singer (Eds.), Creativity: From potential to realization (pp. 153-167). Washington, DC: American Psychological Association.

Sternberg, R. J., Grigorenko, E. L., & Singer, J. L. (2004). Creativity: From potential to realization. Washington, DC: American Psychological Association.