احترت قليلاً حول أول موضوع افتتح فيه مدونتي فهنالك العديد من الموضوعات والقضايا المرتبطة ب "علم" الإبداع (سوف أتطرق لهذا لاحقاً بشيء من التفصيل). هنالك على سبيل المثال مسألة تعريف الإبداع والتي شغلت بال العامة والمفكرين وحتى المتخصصين في المجال حتى الوقت الحاضر٬ ويوجد هنالك الكثير من الجدل يدور حول (ما الإبداع)؟
قضية أخرى تشغل بال الكثير٬ خاصة التربويين وأولياء الأمور هي: كيف يُقاس الإبداع؟ ربما يكون السؤال الأكثر شيوعاً (على الأقل بالنسبة لي) هو هل يمكن قياس الإبداع! ماذا عن السؤال التالي: كيف يمكن تنمية الإبداع لدى الأفراد والجماعات سواء أكانوا طلبة أو موظفين أو مجموعة من الرياضيين؟ أعتقد شخصياً (وقد أكون مخطئاً) أن قضية تنمية الإبداع استحوذت٬ ولاتزال تستحوذ اهتماماً أكثر من قبل الباحثين العرب من قضيتي تعريف الإبداع وقياسه (لاحظ/لاحظي أن وجود اهتمام أكثر لا يعني بالضرورة أهمية أكثر). هذه بعض الأمثلة لمواضيع من المهم التطرق لها (وسوف يتم التطرق لها بإذن الله مستقبلاً) ومناقشتها بشيء من التفصيل والتعمق. رغم ذلك٬ أعتقد أن السؤال الأهم الذي يجب أن أبدأ به هو: لماذا الإبداع؟ بالتأكيد هنالك العديد من الأسباب النفسية٬ الفلسفية٬ الاقتصادية٬ والاجتماعية لدراسة الإبداع٬ لكني سوف أختصرها في ثلاثة أسباب أعتقد أنها الأهم
السبب الأول هو أن الإبداع بات "ضرورة" للعيش (أو ربما النجاة؟) في القرن الحادي والعشرين. أنظر/أنظري حولك.. هنالك أعداد لا تحصى من الخريجين الذين يبحثون عن فرصة عمل مقابل فرص عمل محدودة. افترض أن هنالك ٢٠٠ خريج وخريجة في تخصص ما٬ الجميع لديه نفس الدرجة العلمية (البكالوريوس) في نفس التخصص العلمي (الطب على سبيل المثال) ٬ مقابل ٥٠ فرصة عمل! ما الذي يجعلك "مختلفاً" عن الآخرين؟ لديك مجموع أفضل؟ أكملت دراستك في زمن أقل؟ كنت حاصلاً على بعثة دراسية؟ هذا جيد لكن سوف أكون صريحاً معك: هذا لا يكفي. ليس هذا كلاماً مرسلاً (يعني بالعامي مو خربطة!). اذهب إلى المسؤولين عن التوظيف في أغلب الشركات والمؤسسات والبنوك واسألهم: ما الذي تنظرون إليه في المتقدمين لشغل منصب ما؟ قد تختلف الإجابات باختلاف نوع المنصب٬ لكنك سوف تجد عاملاً مشتركاً يبحث عنه الجميع: المهارة. بالطبع٬ هنالك عدد كبير من المهارات لكنني هنا أتحدث عن مهارة محددة لن تجد مؤسسة ناجحة لا تبحث عنها: الإبداع. هل الإبداع مهارة؟ سوف يتم التطرق لهذا في مدونة أخرى بإذن الله. ما يهم هنا أن هنالك العديد من المهارات المنطوية تحت مظلة الإبداع منها على سبيل المثال حل المشكلات بطرق إبداعية٬ وإيجاد المشكلة (أي القدرة على التعرف على الثغرات وتحسس المشكلات) ٬ والعصف الذهني (أي توليد أكبر عدد من الحلول والأفكار لقضية أو مشكلة ما)-- هذه المهارات هي مهارات مطلوبة في أغلب الشركات والمؤسسات الناجحة. تود التأكد؟ أذهب لمواقع "أبل" و "أمازون" و "مايكروسوفت" وابحث عن "أي" وظيفة وانظر إلى المؤهلات المطلوبة. سوف تجد إحدى هذه العبارات "القدرة على حل المشكلات" ٬ "القدرة على التعامل مع التحديات المختلفة" ٬ "القدرة على الإتيان بأفكار جديدة." ما أود التأكيد عليه هو أن الإبداع في القرن الحادي والعشرين أصبح ضرورة (للجميع) وليس لفئة معينة من المجتمع دون غيرها. اذهب لموقع "مهارات القرن الحادي والعشرين" (انظر للرابط في الأسفل) ٬ وسوف تجد أن الإبداع إلى جانب التفكير الناقد والتواصل والتعاون هي من متطلبات هذا العصر.. عصر المهارة
السبب الآخر قد يكون فلسفياً وجمالياً (بعكس الأول والذي هو أقرب إلى الواقعية) ٬ وهو أن الإبداع يجلب السعادة والنفع للمجتمع. بالطبع٬ هنالك من يعتقد بوجود جانب مظلم للإبداع ويوجد كتاب تم تخصيصه للتطرق لهذه القضية٬ تجد/تجدين توثيقه في المراجع. على الرغم من ذلك٬ فإن من المؤكد أن الإبداع أمر جميل ويجلب السعادة والخير للمجتمع. أنظر/أنظري لكل أنواع التكنولوجيا من حولك. إنها نتيجة لأفكار غير تقليدية بعضها أحدث ثورة غير مسبوقة كفكرة الهاتف الذكي التي عرفها العالم منذ العام ٢٠٠٨ تقريباً. ما الذي يجعل منتجاً ما أفضل من منتج آخر أو فلماً ما أكثر نجاحاً من البقية؟ أذكر أنني في إحدى المرات٬ وبعد الانتهاء من مشاهدة أحد الأفلام (فلم الشفق-الجزء الأخير) ٬ قلت لمن معي بشكل عفوي: الابداع شي جميل (طبعاً قلتها بالعامي!). ختام القصة كان مثالاً للإبداع في الكتابة (والإخراج) وكيف أن الكاتب جعلك تصدق قصة أو تصوراً ما لنهاية الأحداث في الفيلم٬ وخلال ثوانٍ معدودة تغيرت مجريات الأحداث بشكل مختلف تماماً لتكون النهاية معاكسة للتصور الأول! هل سبق وأن سمعت مقطوعة وتركت لديك شعوراً جميلاً لا زلت تتذكره؟ أو ربما نظرت يوماً ما إلى لوحة فتعجبت من جمالها؟ هنالك شيء مشترك.. توجد هنالك فكرة أصيلة (مختلفة وغير تقليدية). الإبداع ليس أمراً مهماً فحسب٬ بل إضافة لذلك هو جميل ويحمل الفائدة للمجتمع
السبب الثالث المهم لدراسة الإبداع والاهتمام به هو الجدوى الاقتصادية للاستثمار في الإبداع. ما الذي يجعل دولة ما "متقدمة" وأخرى "نامية"؟ هل تعرف الإجابة؟ هنالك نظرية حديثة نسبياً حول الاقتصاد والإبداع للكاتب ريتشارد فلوريدا صاحب كتاب "صعود الطبقة المبدعة" (انظر للمراجع في الأسفل) ٬ مفادها أن هنالك طبقة جديدة بدأت تظهر في المجتمع غير الطبقات المتعارف عليها (الطبقة الغنية والمتوسطة والعاملة). هذه الطبقة تتواجد بشكل "غير عشوائي" في مناطق معينة وتجعل من هذه الأماكن أو المدن أماكن جذب اقتصادي للمستهلكين من كل أنحاء العالم. يشرح فلوريدا في كتابه (وفي مقالاته) عدداً من الأسباب حول كيفية وأسباب تجمع هذه الطبقة في مناطق محددة في العالم والتي قد نختلف معه في عدد منها٬ لكن الأهم بالنسبة لنا هو كيفية إنشاء هذا النوع من التجمع غير العشوائي للعقول المبدعة لتكون منطقتنا (الخليج العربي) منطقة جذب استثماري تنطلق منها صناعات متنوعة ومبدعة يحتاج إليها العالم. الوصول إلى هذا المستوى من الإنتاجية ومن الاقتصاد المعتمد على الصناعة يحتاج إلى الكثير٬ لكنني أعتقد شخصياً أن أول وأهم ما نحتاج إليه هو أن نؤمن بالإبداع. هذا الإيمان يجب أن يتعدى التصريحات والكلمات البرّاقة التي تتضمنها العديد من الوثائق والخطط إلى الاستثمار الفعلي في الإبداع. ماذا عن الاقتصاد القائم على الإبداع (بدلاً من القائم على المعرفة)؟ مجرد تساؤل
للتلخيص٬ هنالك العديد من الأسباب لدراسة الإبداع والاهتمام به قد يكون أهمها أن الإبداع هو أحد متطلبات القرن الحادي والعشرين وهو ضرورة لجميع فئات وشرائح المجتمع في كافة التخصصات٬ كما أن الإبداع (أو نتائج العمل الإبداعي) تتسم بالجمال وتجلب المنفعة والسعادة للفرد والمجتمع. إضافة لذلك٬ فالإبداع محرك ومصدر قوة اقتصادية هائلة ان تم الاستثمار فيه بشكل صحيح وجاد
سوف أتطرق في المدونة اللاحقة بإذن الله إلى قضية تعريف الإبداع مستعرضاً أحدث المستجدات والآراء حول ما الإبداع وما علاقة الإبداع بغيره من المفاهيم المرتبطة به كالأصالة والابتكار والتفكير التباعدي
ملاحظة جديرة بالذكر تتعلق بالمدونات في هذا الموقع وهي أن الهدف من كتابة هذه (الخواطر) هو التواصل مع الآخر (تذكر/تذكري أن التواصل من مهارات القرن الحادي والعشرين!) لذا ستجد/تجدين أن أسلوب الكتابة هو أقل رسمية (وهو ما لا يتاح لي عند كتابة البحوث على سبيل المثال)٬ لذا وجب التنويه
المراجع
http://www.p21.org
Cropley, D. H., Cropley, A. J., Kaufman, J. C., & Runco, M. A. (2010). The Dark Side of Creativity. New York: Cambridge University Press.
Florida, R. L. (2012). The rise of the creative class, revisited. New York : Basic Books.