فجوة الإبداع
منذ عقدين من الزمن أو ما يزيد، بات مصطلح الإبداع من أكثر المصطلحات شيوعاً واستخداماً في مختلف الأوساط، من قبل قادة الدول والحكومات إلى أصحاب الشركات، وحتى التربويون وأولياء الأمور. هذا وعلى الرغم من الاستخدام الواسع لهذا المفهوم، إلا أن الفهم الصحيح له لا يزال بعيداً عن الكثيرين، وقد يستغرب البعض أن الإبداع بات أحد العلوم المستقلة التي تُدرس في عدد من الجامعات العريقة حول العالم منذ خمسة عقود على الأقل، وتوجد اليوم عدد من الجامعات العالمية التي تطرح برامج دراسات عليا في علم الإبداع. إن إدراك أهمية الإبداع من قبل كافة أطياف المجتمع لهو أمر إيجابي، ولكن السؤال المهم هو: هل هنالك اتساق بين الشعور بأهمية الإبداع وبين تنمية وتطوير الإبداع بشكل فعلي؟
يهدف المقال الحالي إلى مناقشة مثل هذا التساؤل من منظور تربوي وفي سياق التعليم الأساسي. وقبل الحديث عن موضوع المقال، ألا وهو فجوة الإبداع ، فإن من الجيد تقديم تعريف مبسط لهذه العملية العقلية المعقدة- الإبداع. إن أبسط تعريف للإبداع هو قدرة الفرد على الإتيان بفكرة أو منتج يتسم بالأصالة والفاعلية. بكل تأكيد، فإن جوهر الإبداع هو الأصالة (الإتيان بشيء جديد)، ولكن لا بد أن يكون هذا الجديد ذو فاعلية ومنفعة للمجتمع. فعلى سبيل المثال، قد يبتكر مهندس معماري ما فكرة إبداعية لتصميم مبنىً ما لم يسبقه إليه أحد، ولكن إن لم تكن الفكرة فعالة (قابلة للتطبيق) فليس هنالك إبداع. بلا شك، فإن التعريف الشامل للإبداع هو أكثر تعقيداً من التعريف السابق، ولعلي أتناول ذلك في أحد المقالات القادمة بإذن الله
لنعد الآن لموضوع المقال ألا وهو "فجوة الإبداع" وهو بكل أسف من الموضوعات الغائبة عن البحوث العلمية والكتابات الأكاديمية في المحيط العربي، خاصة وأنها ظاهرة تستحق مناقشتها وتسليط الضوء عليها بشكل موسع بين التربويين وصناع القرار. هذا وتعرف فجوة الإبداع أنها الفرق بين مستوى الإبداع الذي يُظهره الطلبة في السياق المدرسي وبين الإبداع الذي يظهرونه خارج المدرسة. إن أول دراسة علمية أجريت حول فجوة الإبداع كانت في العام ١٩٦٥ في الولايات المتحدة الأمريكية عندما لاحظ عالمي النفس هولاند وريتشارد أن طلبة المدارس يميلون لإظهار سلوكهم الإبداعي خارج البيئة المدرسة وليس من خلال البيئة المدرسية. بمعنى آخر، فإن طلبة المدارس يدركون البيئة المدرسية على أنها بيئة غير مشجعة للإبداع، لذا فإنهم يفضلون الحديث عن أفكارهم وتطوير منتجاتهم الإبداعية في المنزل وليس المدرسة. هذا وقد تلت دراسة هولاند وريتشارد عدد من الدراسات العلمية كان آخرها دراسة أجراها مارك رنكو وآخرون في العام ٢٠١٧ والتي طبقت على عينة من الطلبة الأتراك، إضافة لدراسة حديثة حول فجوة الإبداع في البيئة العربية من إعداد كاتب المقال وآخرون وهي قيد النشر في إحدى المجلات العلمية المرموقة. إن خلاصة ما توصلت إليه هذه الدراسات والدراسات التي سبقتها هو أن طلبة التعليم العام لا يرون في البيئة المدرسية بيئة محفزة وداعمة للإبداع. إن الخبر الجيد هو أن وجود مثل هذه الفجوة في الإبداع ليست معضلة محلية، حيث قد دُرس الموضوع في ثقافات متنوعة وكانت النتائج متقاربة إلى حد كبير، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه ويستحق نوعاً من المناقشة المستفيضة هو: لماذا يفضل طلبة المدارس إظهار إبداعاتهم خارج المدرسة؟ لحسن الحظ، فإن البحوث السابقة قد أشارت إلى مجموعة من الأسباب منها سمات الشخصية المبدعة، البيئة الإبداعية، طبيعة المنهج المقدم للطلبة والذي يركز على مهارات التفكير الدنيا (التذكر والفهم والتطبيق)، إضافة لطبيعة النظام التربوي الذي يركز بشكل مبالغ فيه على الاختبارات المقننة والتي غالباً ما تقيس ما يطلق عليه بالتفكير التقاربي وهو التفكير الذي يركز على وجود إجابة واحدة صحيحة لكل سؤال
فيما يتعلق بالشخصية المبدعة فتتفق البحوث النفسية والتربوية على أن الأفراد المبدعين يتمتعون بعدد من السمات التي تميزهم عن غيرهم لعل أهمها الاستقلالية، الانفتاح على الخبرة، الفضول، التساؤل، والخيال الواسع. إن مثل هذه الخصائص قد تتعارض مع ما هو موجود في البيئة المدرسية وما توفره الأنظمة التعليمية حول العالم، فهل تعزز البيئة المدرسية الاستقلالية والخيال والانفتاح على الخبرة على سبيل المثال؟ ليس الهدف هنا هو نقد النظام التعليمي، بل التأمل ومراجعة ممارساتنا التربوية للتوصل إلى أبرز الحلول لتعزيز الإبداع في البيئة المدرسية. في هذا السياق، فإنه من المثير للاهتمام التطرق إلى نتائج الدراسات التي أجراها بول تورانس وآخرون والتي أشارت أن درجات الطلبة في اختبارات الإبداع تبدأ بالتناقص منذ الصف الرابع الابتدائي، وهي الظاهرة التي تعرف تربوياً بكارثة الإبداع . إن التركيز على المنطق بشكل مبالغ فيه، إضافة لعدم تعزيز الخيال لدى الطلبة من شأنه قتل الإبداع شيئاً فشيئاً. أما المناهج الدراسية، فعلى الرغم من أنها جيدة جداً في إكساب الطلبة بالمعرفة المتقدمة في مختلف الموضوعات، إلا أنها تفتقر للإبداع سواء أكان ذلك في المحتوى المقدم أو الأنشطة والتدريبات التي تتضمنها الكتب المدرسية. إن إكساب الطلبة بالمعرفة المتقدمة أمر في غاية الأهمية، إلا أن تقدم البشرية لا يعتمد على إتقان المعرفة فقط، بل توظيف المعرفة المتاحة لخلق معرفة جديدة
من الجيد ختم هذا المقال بمجموعة من المقترحات لسد فجوة الإبداع، فكم هو رائع أن يمارس الطالب أو الطالبة الإبداع في المدرسة وفي المنزل وخارج المدرسة والمنزل وذلك من خلال الأنشطة اللامدرسية التي توفرها عدد من مؤسسات المجتمع. إن سد فجوة الإبداع يحتم علينا التفكير بأساليب وطرق غير تقليدية تجعل من المدرسة مكاناً محبباً لدى الطلبة وذلك من خلال عدد من الممارسات القائمة على الأدلة والبراهين. إن أول شيء يجب العمل عليه هو تحريك الدافع الداخلي لدى طلبتنا نحو الإبداع وإيجاد الشغف للتعلم وهذا ليس أمراً مستحيلاً، ولكنه يحتاج لتخطيط علمي مدروس، وبكل تأكيد، فإنه يحتاج لعقول مبدعة. في ظل غياب الدافع نحو التفكير الإبداعي، نكون خسرنا أول خطوة لتعزيز الإبداع لدى طلبتنا. ولكن كيف يمكننا تحقيق ذلك؟ إن هنالك العديد من الإجابات، ولكن أهمها هو توفير الاستقلالية الفكرية لطلبتنا. إن المتأمل للسِير الشخصية للمبدعين كأمثال ستيف جوبز وآينشتاين ونيوتن ودافنشي يجد أن هذه الشخصيات كانت تتمتع بالاستقلالية الفكرية وهي عكس مجاراة الآخرين في إبداعاتهم أو في طريقتهم في التفكير. أما النقطة الثانية فهي أهمية توفير البيئة الآمنة نفسياً وهي البيئة التي يشعر فيها الطالب بالأمان للحديث عن أفكاره دون الخوف من النقد من قبل الآخر. ثالثاً، فلا بد من إكساب طلبتنا بمهارات التفكير الإبداعي كالطلاقة والمرونة والأصالة سواء أكان ذلك من خلال المنهج المدرسي (من خلال تعديل المنهج) أو بشكل مباشر من خلال العديد من الاستراتيجيات التي يوفرها الأدب التربوي. بحسب تيريزا أمابيل، الأستاذ الفخري في كلية إدارة الأعمال في جامعة هارفارد، فإن تحقق الإبداع يتطلب توفر ثلاث عناصر هي مهارات التفكير الإبداعي، المعرفة المتقدمة في موضوع ما، والدافعية الداخلية للإنجاز الإبداعي. أخيراً فإن التعليم من أجل الإبداع يتطلب إعداد المعلمين لتعزيز السلوك الإبداعي لدى الطلبة. فإن لم يكن المعلم ملماً أو على وعي بمهارات التفكير الإبداعي وكيفية قياس الإبداع وتنميته فلن يكون هنالك مكان للإبداع في البيئة الصفية. هذا وعلى الرغم من أهمية كل ما ذكر لتقليص فجوة الإبداع إلا أن أهم نقطة تكمن في الإيمان الفعلي من قبل جميع أفراد المجتمع بأهمية الإبداع وأنه ضرورة حتمية للتطور وبناء الحضارة وذلك يتطلب التخطيط المدروس للتعليم نحو الإبداع، فكما أن التفكير الإبداعي هو تفكير مقصود فإن تنمية الإبداع لدى طلبتنا يجب أن يكون عملية مقصودة مستندة إلى أحدث الأدلة العلمية والخبرات المتراكمة لسد مثل هذه الفجوة في الإبداع، لتكون مدارسنا حاضنة للعقول المبدعة التي تحمل على عاتقها صناعة مستقبل واعد وبناء اقتصاد قائم على المعرفة الأصيلة وغير التقليدية
المراجع
Holland, J. L., & Richards, J. M., Jr. (1965). Academic and nonacademic accomplishment: Correlated or uncorrelated? Journal of Educational Psychology, 56(4), 165–174. https://doi.org/10.1037/h0022402
Runco, M. A., Abdulla Alabbasi, A. M., Acar, S., & Ayoub, A. (under review). Creative potential is deferentially expressed in school, home, and the natural environment.
Runco, M. A., Acar, S., & Cayirdag, N. (2017). A closer look at the creativity gap and why students are less creative at school than outside of school. Thinking Skills and Creativity, 24, 242–249. https://doi.org/10.1016/j.tsc.2017.04.003
Torrance, E. P. (1968). A longitudinal examination of the fourth-grade slump in creativity. Gifted Child Quarterly, 12, 195–199.