لقد برز مفهوم المدن المبدعة منذ عقدين من الزمن على الأقل وذلك بفضل كتابات عالم الاقتصاد الحضري البروفسور ريتشارد فلوريدا والذي تناول مفهوم الطبقة المبدعة في كتابة الشهير صعود الطبقة المبدعة وهو من أكثر الكتب انتشاراً ومبيعاً في مجال الاقتصاد الإبداعي. فما هي المدن المبدعة؟ وما الذي تتميز به هذه المدن دون غيرها؟ بداية فإن فكرة الطبقة المبدعة تشير إلى تجمع مجموعة من الأفراد الذين يشتركون في أفكارهم وقيمهم الإبداعية والتي تخرج عن الإطار الألوف والتي لا يتقبلها أي مجتمع، وهي تختلف عن فكرة الطبقية القائمة على مستوى الدخل كالطبقة الغنية والمتوسطة والعاملة -- على سبيل المثال. هذا وقد لاحظ ريتشارد فلوريدا صاحب مؤشر الإبداع العالمي أن هذه الطبقة تتجمع بشكل غير عشوائي في مدن معينة لعل أبرزها المدن التي تقع في وادي السيليكون وأشهرها الجزء الجنوبي من مدينة سان فرانسيسكو والتي تشكل مركزاً عالمياً للتقنية العالية والابتكار، إضافة لمدن أخرى كسياتل، وبورتلاند، وسان دييغو، وبوسطن
تُعرف الطبقة المبدعة من خلال الوظائف التي يشغلها مجموعة من الأفراد الموهوبون وتضم العلماء والمهندسين وأساتذة الجامعات والشعراء وكتاب الروايات، والفنانين، والممثلين، والباحثين. إن دور هذه الطبقة لا يقتصر على حل المشكلات، بل يمتد لإيجاد المشكلات. هذا وليس بالضرورة أن يحمل هؤلاء الأفراد شهادات جامعية متقدمة فبحسب فلوريدا، حيث أن أربعة من أصل كل عشر أفراد من الطبقة المبدعة لا يمتلكون شهادات جامعية، لكنهم يحملون مواهب تفوق مثل هذه الشهادات، ولعل جزءاً كبيراً من هؤلاء قد تركوا مقاعد الدراسة لأن المناهج الدراسية لا تستوعبهم أو أنها تعمل بشكل يُثبط الإبداع، وذلك من خلال التركيز غير المبرر على المنطق ومهارات التفكير الدنيا كالحفظ والاسترجاع والفهم، وبالتالي إهمال أو عدم توفير مساحة للتفكير غير التقليدي. إن من الجيد معرفة ما يشترك به هؤلاء النخبة والقيم التي يختارونها لأنفسهم. هذا وتشير الدراسات العلمية أن أفراد الطبقة المبدعة يتميزون عن غيرهم في مجموعة من القيم التي يتبنونها لعل أهمها الفردية، الجدارة، والانفتاح على الخبرة والتنوع، وهي جميعها خصائص تميز الأفراد المبدعين عن غيرهم. ولكن ما هي شروط المدن الإبداعية ولماذا يختار أفراد الطبقة المبدعة مدناً معينة دون غيرها للهجرة والعمل فيها؟ إن الجواب يكمن في ثلاث خصائص هي الموهبة، التكنولوجيا، والتسامح، أو ما يطلق عليه اختصاراً بالتاءات الثلاثة
بداية، فإن أساس أي مدينة مبدعة هي المواهب التي تحتضنها وتدعمها. تشير الدراسات السيكولوجية والاقتصادية أن الأفراد الموهوبين لا يتجمعون بشكل عشوائي، بل يختارون الأماكن التي يودون العيش والعمل فيها بناءً على عدد من المعايير منها وجود أفراد ذوي موهبة في المدن التي يختارون السكن فيها. إن الأمر بديهي، فالموهوب يفضل التعامل مع عقلية تستطيع فهمه وتتشارك معه الأفكار غير التقليدية، فهم يواجهون صعوبة في التعامل مع الأفراد التقليديين الذين نادراً ما يخرجون من الإطار العادي في التفكير. لذا فإن أول شرط يجب يتوفر في المدن الحاضنة للإبداع هو جذب المواهب وهو ما تركز عليه عدد من دول العالم لعل أبرزها الولايات المتحدة الأمريكية، وحديثاً المملكة المتحدة من خلال ما يطلق عليه بتأشيرة المواهب العالمية وحكومة دبي من خلال استراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعي. هذا ومن الجيد التطرق إلى ما تقوم به حكومة مملكة البحرين الموقرة برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء من خلال برنامج سمو ولي العهد للمنح الدراسية العالمية والذي تخرج منه عشرات الطلبة الموهوبين الذين تركوا ولا يزالون يتركون بصمات إبداعية في مختلف القطاعات، إضافة للتسهيلات التي تقدمها الحكومة الموقرة للمستثمرين الأجانب من خلال مجلس التنمية الاقتصادية
هذا وعلى الرغم من أهمية توفر المواهب في المجالات المختلفة، إلا أنه وبدون توفر البنية التحتية للتكنولوجيا المتقدمة فإن تطبيق الأفكار الإبداعية غير ممكن حيث تمثل التكنولوجيا المتقدمة القوة الدافعة للنمو الاقتصادي. أنظر لشركات مثل إنتل وأبل وسيسكو وجوجل والفيس بوك، كلها اختارت أن يكون مقرها في وادي السيليكون. إن هذا الاختيار ليس عشوائياً فمثل هذه الشركات الضخمة تختار مقارها بعناية فائقة، ومثل ذلك ينطبق على مدينة سياتل والتي تحتضن شركتي مايكروسوفت وأمازون، على سبيل المثال. إن ما يثلج الصدر هو اهتمام مملكة البحرين باستقطاب الشركات التكنولوجية واهتمامها بالمبادرات التي من شأنها تفعيل التكنولوجيا لخدمة المجتمع، ولعل من أهم الأمثلة مبادرة البحرين للمرأة في التكنولوجيا المالية، والمركز المتقدم للمملكة لجاهزية الحكومة الالكترونية والذي أشار إليه تقرير الأمم المتحدة للحكومة الالكترونية 2020وذلك من خلال حصول مملكة البحرين على المركز الثاني عربياً وإقليمياً وتصنيفها ضمن فئة الدول ذات المؤشر العالي جداً في مجال التطور العام للحكومة الالكترونية. إن كل ذلك من شأنه جذب أكبر للطبقة المبدعة من كافة دول العالم والتي تبحث عن المناخ المشجع للإبداع والابتكار
أخيراً، قد يكون أهم عامل لجذب الطبقة المبدعة هو عنصر التسامح الذي يظهره المجتمع للمستثمر الخارجي. تخيل أنك أحد المستثمرين وتود اختيار أحد المدن لتكون مركزاً لتجارتك. بالطبع فإنك سوف تفكر بعدد من العوامل كتوفر المواهب والتسهيلات التي تقدمها كل مدينة لمشروعك إضافة للبنية التحتية للتكنولوجيا، ولكنك أيضاً (وبحسب الدراسات العلمية) سوف تفكر بالبيئة الحاضنة للإبداع والتنوع في المواهب والأفكار ودرجة التسامح التي يبديها القائمون على الصناعة والتجارة. إن خبراء الاقتصاد يتحدثون عن أهمية عدم وجود عوائق، أو اختيار المدينة التي تقدم تسهيلات أكبر للاستثمار الإبداعي، وبالمثل فإن البحث يكون عن المدن التي توفر تسهيلات للعقول المبدعة للهجرة والعمل فيها. هذا وبغض النظر عن المواهب التي تمتلكها أي دولة فسوف تكون هنالك حاجة دائمة لجذب نسبة من المواهب الخارجية لأن مخرجات التعليم لن تغطي كافة مجالات الاقتصاد، ولعل أبرز مثال لجذب المواهب هو ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية، والتي على الرغم من التعليم الجيد الذي توفره، وعلى الرغم من تعداد السكان المرتفع فيها، إلا أنها في بحث دائم عن المواهب في المجالات التي لا تغطيها مؤسسات التعليم العالي. يكفيك مثلاً أن تزور صفحات أعضاء هيئة التدريس في الجامعات الأمريكية لترى عدد الأساتذة والعلماء التي ترجع أصولهم لدول أخرى خاصة دول شرق آسيا. كما يكفيك معرفة أنه وبالرغم من أن المهاجرين يشكلون ١٢٪ من نسبة السكان في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنهم يسهمون بنسبة ٢٥٪ من براءات الاختراع المسجلة في مكتب براءات الاختراع الأمريكي، كما يشكلون ٤٧٪ من العلماء والمهندسين الذين يحملون درجة الدكتوراه
خلاصة القول إن لدينا في مملكة البحرين كل مقومات المدن المبدعة، فهنالك المواهب البحرينية التي أثبتت جدارتها في كافة المجالات وذلك بفضل التأهيل المدروس والمبادرات القيمة التي تتبناها مؤسسات الدولة، كما تتوفر لدينا البنية التحتية للتكنولوجيا ما يجعل مملكة البحرين اختياراً استراتيجياً للاقتصاد الإبداعي، إضافة لما يعرف به شعب البحرين من خصال فريدة لعل أهمها التسامح وتقبل الآخر والتنوع. لذا فإنه من الناحية النظرية، فلا ينقص المنامة شيء لتكون في مصاف المدن المبدعة. إن ما يجب العمل عليه في المستقبل القريب هو التسويق للمنامة كعاصمة للاقتصاد الإبداعي إضافة لأهمية تجميع كافة الجهود التي تبذلها الدولة وترجمتها في استراتيجية واضحة لجذب الاقتصاد الإبداعي، ولعل اصدار استراتيجية خاصة للابتكار والإبداع كتلك التي أصدرتها المملكة المتحدة وتسويقها عالمياً من شأنه جذب العديد من الاستثمارات المبدعة وجعل المنامة عاصمة للإبداع والابتكار