ما الذي يتنبأ بالنجاح في المستقبل؟ بالتأكيد، هنالك العديد من العوامل التي تتنبأ بشكل أو آخر بنجاح أبنائنا وبناتنا، إلا أن التحصيل الدراسي يكاد يحتل المرتبة الأولى من وجهة نظر أولياء الأمور وحتى بعض المُربين. لقد تَعلمنا منذ الصغر أن التحصيل الدراسي (خاصة في المرحلة الثانوية) سيضمن لنا النجاح في المستقبل... هكذا علمونا. إلا التحصيل الدراسي، وعلى الرغم من أهميته، فإن التركيز عليه بشكل مفرط قد يكون ضاراً على طلبتنا من الناحية النفسية، ومن الناحية المهنية مُستقبلاً.
من أجل التحصيل الدراسي، فإننا نقوم بالضغط على أبنائنا وبناتنا ليحصلوا على ٤/٤، أو ١٠٠٪. اثنتا عشرة عاماً يقضيها أبناؤنا وبناتنا على مقاعد الدراسة—إذا استثنينا التعليم ما قبل المدرسة—هي سنوات مليئة بالضغوط النفسية لأننا جميعاً نود أن يكون أبناؤنا من الأوائل، متجاهلين حقيقتين أساسيتين: (١) أن هنالك فروقاً فرديةً بين البشر في جميع القدرات المعرفية وغير المعرفية، (٢) وأن النظام التعليمي الذي يحصل فيه الجميع على ١٠٠٪ ليس له وجود! حسناً، إن كان الأمر كذلك—أي أن المعدل الدراسي المرتفع يتنبأ بالنجاح في المستقبل—فلا بأس ببعض الضغط على أبنائنا من أجل مستقبلهم، إلا أن مدرسة الحياة والتجارب الواقعية يخبراننا أن النجاح في المستقبل يتطلب ما هو أكثر من مجرد التحصيل المرتفع. أتناول فيما يلي أحد أهم عوامل النجاح في المستقبل، ألا وهو الذكاء العاطفي.
في العام ١٩٩٥، نشر عالم النفس والمؤلف الشهير دانيال جولمان أحد أكثر الكتب مبيعاً بعنوان: لماذا قد يكون الذكاء العاطفي أكثر أهمية من معامل الذكاء؟ إذا أمعنّا النظر في الحياة الواقعية، فسوف ندرك أن متطلبات النجاح تفوق التحصيل الدراسي والمعرفة المتقدمة التي قد لا نستخدم بعضها أبداً بعد التخرج من المدرسة أو الجامعة. إن من أسباب النجاح في الحياة الواقعية هي قدرة الفرد على إدراك مشاعره ومشاعر الآخرين، قدرته على إدارة الضغوط، قدرته على التعاطف مع من هم حوله، إضافة إلى قدرته على التكيف مع متغيرات الحياة. كل ما سبق يُشكل ما يُعرف اليوم بالذكاء العاطفي الذي، ومع الأسف، ليس له مساحة واسعة في التعليم محلياً وعالمياً.
إن الذكاء العاطفي مُهمٌ للمُعلم ليتفهم مشاعر طلبته ويتعاطف معهم عندما يتعرضون لمشكلة أو إخفاق ما، كما أنه مُهمٌ للطبيب عندما يتعامل مع الحالات الحرجة أو المستعصية، وكذلك هو مُهمٌ لجميع التخصصات الأخرى التي تتطلب التواصل الفعَّال بين الفرد والآخر. إن التعامل مع الطلبة على أساس الدرجات وأنهم أرقام يدل على عدم النضج، وهو بعيدٌ جداً عن جوهر وأهداف التعليم. كما أن هوس التحصيل المرتفع قد يُولد أجيالاً من الطلبة يعانون من أمراض نفسية وصحية، لأنهم وبكل بساطة مشغولون طوال وقتهم بالدراسة والتحصيل والخوف من العقاب. في دراسة حديثة حول الطلبة الموهوبين والذين هم أكثر حساسية فيما يتعلق بالتحصيل الدراسي، فقد أشارت النتائج أن الكمالية الزائدة لدى بعض الطلبة، إضافة إلى الضغوط النابعة من التعليم القائم على الاختبارات قد يؤديان إلى بعض الأمراض الجسدية، منها أمراض القلب. ليس المقصود هنا إهمال التحصيل الدراسي، بل توعية المُربين وأولياء الأمور لحقيقة أن النجاح في المستقبل لا يرتبط بالتحصيل فقط، بل أن هنالك عوامل أخرى كالتربية العاطفية والذكاء العاطفي. إن التربية العاطفية تعني تقبلك وحبك غير المشروط لابنك وابنتك، لطالبك وطالبتك، بغض النظر عن أدائهم التحصيلي. جميعنا نحمل بعض الذكريات لأساتذة مروا علينا وكان لهم دور كبير في حبنا لمادة أو مقرر ما، لأنهم وبكل بساطة لم يتعاملوا معنا كأرقام، بل بأشخاص لهم حاجاتهم النفسية والعاطفية. في إحدى المرات سألتني ابنتي، ما هي الدرجة التي سوف تجعلك فخوراً بي، فكانت الإجابة: أنا فخور بك بغض النظر عن درجتك.
إن التربية العاطفية هي إحدى الجوانب التي قد نهملها نتيجةً لانشغالنا بحل الواجبات مع أبنائنا إلى درجة أننا ننسى، أو قد لا يسمح لنا الوقت بالسؤال عنهم، بالحديث معهم، وباحتضانهم ومداعبتهم. قصة أخرى رُويت لي من أحد الأشخاص أنه اختار التقاعد المبكر من أجل أن يتمكن من توصيل أبنائه واستلامهم من المدرسة يومياً بعدما تغيرت أوقات انصراف أبنائه نظراً لاختلاف مراحلهم الدراسية، وتعارض ذلك مع توقيت عمله. لقد تعلمت من هذا الشخص الذي لا يحمل سوى شهادة الثانوية العامة، أن فقرة الذهاب إلى المدرسة مع الأب أو الأم هي أكثر فترات اليوم أهمية لدى الأبناء، وهي التوقيت الأمثل لزراعة القيم والمبادئ وتقليل التوتر الناتج عن الاختبارات والقلق المصاحب لعدم فهم جزئية معينة من المادة التعليمية.
اختم بالقول أن الذكاء العاطفي، ولحسن الحظ، هو أمر يمكن تنميته لدى الطلبة في جميع المراحل الدراسية وكذلك لدى الموظفين والعاملين، وأن هنالك العديد من المصادر المتخصصة بكيفية تنشئة أطفال يتمتعون بالذكاء العاطفي، كما أن هنالك برامج تنفيذية خاصة بالذكاء العاطفي تطرحها بعض الجامعات المرموقة عالمياً كجامعات هارفرد وأريزونا وأوكسفورد. أخيراً، تذكر/تذكري أن أحد أهداف التعليم ليس حصول جميع الطلبة على درجات عالية، بل غرس حب التعلم لأن التعلم المبني على الشغف والاهتمامات هو بكل تأكيد أشد أثراً وأكثر فاعليةً من التعليم المبني على الخوف من الفشل.