يُعد مفهوم الابتكار من أكثر المفاهيم تداولاً في الآونة الأخيرة، من قبل القادة والسياسيين والتربويين وصناع القرار، وليس ذلك بمستغرب حيث غدى الابتكار ضرورة لتقدم المجتمعات ونهضتها، خاصة في ظل المشكلات المعقدة التي تواجهها البشرية والتي تتطلب نوعاً من التفكير غير التقليدي لحل المعضلات التقليدية والتنبؤ بالمشكلات المستقبلية، إضافة إلى دور الابتكار في دفع عجلة الاقتصاد من خلال طرح أفكار غير مألوفة يكون لها مردود إيجابي على مستوى الدول والأفراد. إن التعريف المختصر للابتكار أنه قدرة الفرد أو مجموعة من الأفراد على الإتيان بأفكار ومنتجات أصيلة تتسم بالفائدة والفاعلية وتكون قابلة للتطبيق على أرض الواقع. يتناول هذا المقال المختصر أحد المفاهيم الحديثة (نسبياً) وأحد أوجه الابتكار والذي يُطلق عليه بالابتكار المزعزع
بدايةً، فإن هنالك تراجم أُخرى لمفهوم الابتكار المزعزع، ولكن الأهم هو معرفة جوهر هذا المفهوم بغض النظر عن الترجمة الدقيقة له في اللغة العربية، فما هو الابتكار المزعزع؟ قبل الإجابة على هذا التساؤل، فمن المفيد التطرق إلى تاريخ هذا المصطلح. هذا وعلى الرغم من أن بعض الباحثين والقرَّاء يعتقدون أن مفهوم الابتكار المزعزع نشأ على يد العالم الأمريكي الراحل كلايتون كريستنسن في كتابه الشهير "مُعضلة المبُتكر،" إلا أن جذور هذا المفهوم تعود إلى عالم الاقتصاد السياسي ووزير المالية النمساوي الراحل جوزيف شومبيتر، والذي طرح فكرة الابتكار المزعزع في كتابه "الرأسمالية، الاشتراكية، والديمقراطية" في العام ١٩٤٢
يُعرَّف الابتكار المزعزع بأنه العملية التي تستطيع من خلالها الشركات الصغيرة والناشئة والتي تمتلك موارد أقل أن تتحدى الشركات المعروفة والناجحة والتي تمتلك موارد مالية أكبر. لكن كيف يمكن لمثل هذه الشركات أن تنافس، بل وفي بعض الأحيان تستبدل الشركات الناجحة والمعروفة؟ يحدث الابتكار المزعزع عندما تُركز الشركات القائمة على تطوير منتجاتها وخدماتها لشريحة العملاء الأكثر ولاءً لها بغرض زيادة الأرباح، بحيث تُغرق الأسواق بمنتجات تفوق حاجة المستخدمين، مُهملةً بذلك شريحة واسعة من المستهلكين الذين لا يحتاجون لهذا التطوير المُكلف مالياً والذي يفوق حاجتهم الفعلية. في نفس الوقت، فإن الشركات الناشئة تستهدف الشريحة المُهملة من قبل الشركات الكبرى وذلك من خلال تقديم منتجات تكون متناسبة مع حاجاتهم وبأسعار معقولة. وعلى الرغم من أن الشركات الكبيرة قد ترصد التحركات التي تقوم بها الشركات الناشئة، إلا أنها لا تستجيب ولا تبدي رد فعل حيال ما تُقدمه هذه الشركات. فعلياً، يحدث الابتكار المزعزع عندما تبدأ الغالبية العُظمى من المستهلكين من الانتقال إلى الخدمات التي تقدمها الشركات الناشئة بدلاً من الشركات القائمة والمعروفة، وفيما يلي بعض الأمثلة للابتكار المزعزع
المثال الأول للابتكار المزعزع هو في المجال التكنولوجي. في الخمسينيات من القرن الماضي بدأت شركات مثل (آي بي إم) بطرح الحاسوب المركزي (أو ما يُطلق عليه بالحاسوب الكبير) والذي كان آنذاك أكثر الحواسيب تطوراً على الإطلاق، إلا أنه كان متاحاً لشريحة صغيرة من المستهلكين نظراً لتكلفته المرتفعة للأفراد، وحتى بعض الشركات. لقد سَعت (آي بي إم) وغيرها من الشركات لتطوير هذا المنتج بخصائص لا يحتاجها المستهلك العادي غير آبهين بالشريحة الكبرى من المستخدمين، ومتناسين ظهور الحواسيب الصغيرة الأقل تطوراً من الحاسوب المركزي، مما أدى إلى زعزعة سوق الحواسيب من خلال توجه الشريحة العظمى من المستخدمين للحواسيب الصغيرة، والتي (للمفارقة) تم استبدالها لاحقاً بالحواسيب الشخصية. المثال الآخر للابتكار المزعزع هو ظهور مفهوم الطيران الاقتصادي والذي على الرغم من أنه لم يستبدل شركات الطيران الأخرى، إلا أنه نافسها بقوة وأدى إلى تقليل مبيعاتها. في الوقت الذي كانت تتنافس فيه شركات الطيران المعروفة لتطوير خدماتها من خلال توسيع أسطولها من الطائرات الأكثر تطوراً، بدأت خطوط ساوث ويست الجوية بإطلاق أول طيران اقتصادي في العام ١٩٧١ لتلبية حاجة شريحة واسعة من المستخدمين الذين لا يمتلكون المال الكافي للسفر على متن شركات الطيران الأخرى، وذلك من خلال(١) تقليل كلفة الرحلات من خلال استخدام نوع واحد من الطائرات لتجنب تكلفة صيانة الطائرات من قبل أكثر من شركة، (٢) تجنب المطارات الكبيرة، و (٣) عدم توفير الوجبات للمسافرين. لقد أدى ظهور شركات الطيران الاقتصادي إرباكاً في أسواق الطيران، مما اضطر شركات الطيران الأخرى لتخفيض أسعارها نظراً للتنافسية الشديدة. جديرٌ بالذكر أن كلايتون كريستنسن رصد قائمةً بأكثر من ٧٠ مثالاً للابتكار المزعزع منها شركة أمازون، البريد الالكتروني، مطاعم ماكدونالدز، وشركة نوكيا للهواتف
قبل الختام، من الجيد التطرق إلى أن بعض القطاعات لديها نوع من المناعة نحو الابتكار المزعزع. بمعنىً آخر، فإن حصول الابتكار المزعزع في بعض القطاعات أكثر صعوبة من غيرها. مثال على ذلك قطاع الفنادق الذي لم يتأثر بالمنافسة من بعض الشركات الناشئة التي تقدم خدمة السكن بكلفة أقل، ومثال على ذلك موقع (اير بي إن بي). كذلك لم يتأثر قطاع التعليم العالي بالجامعات التي توفر درجات علمية عن بُعد، ولا زالت جامعات هارفارد وأكسفورد وستانفورد وكامبريدج تتصدر تصنيف الجامعات منذ عقود
ختاماً، ما الاستفادة أو التطبيقات العملية التي قد تستفيد منها الحكومات فيما يتعلق بالابتكار المزعزع؟ أولاً، فإن على الحكومات دعم الشركات الناشئة الواعدة، بل وأن تستثمر فيها، حيث يمكن لشركة ناشئة واحدة، إذا ما تهيأت الظروف لنجاحها أن تضيف الكثير لاقتصاد البلد. لعل خير مثالٍ لشركات ناشئة تبلغ قيمتها السوقية الآن ميزانيات بعض الدول الفيسبوك، التويتر، والانستغرام. إضافة لذلك، فمن الجيد أن تُنوع الحكومات من شراكاتها محلياً وعالمياً وأن تكون منفتحة على الأسواق الناشئة التي قد تقدم نفس الخدمات التي تقدمها الشركات المعروفة لكن بسعر أقل ووفقاً للحاجة القائمة. أخيراً، سوف يكون من المفيد أن تُشكل الحكومات فرق عمل خاصة في جميع القطاعات لرصد الشركات الناشئة للتنبؤ بوضع الأسواق خلال السنوات القادمة. السؤال الذي أختم به هو: ما الابتكار المزعزع القادم الذي سوف يغير من شكل العالم؟
رابط الابتكار المزعزع من موسوعة الإبداع