التعليم في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية: الواقع وفرص المستقبل

بدعوة كريمة من مكتب التربية العربي لدول الخليج، الصرح والكيان الشامخ الذي يحمل على عاتقه مسؤولية التعليم في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، فقد تشرفت أن أكون أحد خبراء التربية المتحدثين في ندوة: مستقبل التعليم في عيون خليجية والذي سلطت الضوء على قضيتين مركزيتين هما (١) تأثير المتغيرات العالمية على النظم التعليمية في دول مجلس التعاون الخليجي، و(٢) شكل التعليم في المستقبل في دول المجلس في ظل تلك المجريات السياسية، والأمنية، والبيئية، والاقتصادية.

بداية، فليس بمستغرب على مكتب التربية العربي لدول الخليج هذا السَبق في تنظيم مثل هذه اللقاءات التي يتعدى صداها الواقع المعُاش في المجال التربوي إلى تناول المستقبل المنظور وغير المنظور... أو كما يُطلق عَليهِ تقرير التوجهات المسؤولة عن التعليم بالمستقبل غير القابل للتنبؤ. يأتي هذا اللقاء الاستشرافي في مرحلة حرجة من مراحل العمل في التعليم الأساسي والجامعي في دول المنطقة، ما يستدعي وقفة جادة وتأملاً شاملاً لأركان العملية التعليمية والتي تشمل كلاً من (وليست حكراً) على العناصر التالية: مُعلم القرن الحادي والعشرين ومُتعلم القرن الحادي والعشرين ومنهاج القرن الحادي والعشرين والبيئة المدرسة في القرن الحادي والعشرين (بشقيها المادي والمعنوي). 

تأتي هذه المراجعة بعد جائحة غيرت جميع قواعد اللعبة ليس في التعليم الأساسي والعالي فحسب، بل في شتى مجالات الحياة. هذا وقد استعنت في طرحي الذي إلى ثلاث مراجع رئيسة هي "مستقبل التعليم والمهارات للعام 2030"وتقرير اليونسكو 2021 الذي حمل عنوان " إعادة تصور مستقبلنا معاً" إضافة إلى كتاب التوجيهات المسؤولة عن التعليم في العام 2019 من تأليف منظمة التعاون الاقتصادي للتنمية وترجمة مكتب التربية العربي لدول الخليج.

وفي زمن أصبحت فيه النظريات أكثر من الحقائق، والمعارف أكثر من أن تستوعبها الأربع والعشرون ساعة المتاحة لنا، فيحق لولي وولية أمر الطالب/الطالبة طرح السؤال التالي: ما الحقائق التي يجب أن يتعلمها فلذات أكبادنا في عصر يتسم بالسرعة والتغير؟ وهنا أجد نفسي المتواضعة أمام ثلاث حقائق هي: (١) المعرفة تتطور بشكل غير مسبوق، (٢) أصبحت التكنولوجيا جزءاً من حياتا لها تأثيراتها الإيجابية وتلك السلبية، و (٣) نحن في زمن غير قابل للتنبؤ!  إن النقطة الأولى تتطلب منا مراجعة أمرين بشكل مستمر، الأول هو قناعتنا بمنهج قد قمنا بتطويره قبل عام أو اثنين وقد أصبح بعد ثلاث سنوات منهجاً غير مُحدث (في أفضل الأحوال)، وهذا ليس بالأمر السهل خاصة لواضعي المناهج، فهم المختصون الذين يحملون على عاتقهم تطوير المناهج بشكل مستمر. إن قضية تغيير منهج كل عامين أو ثلاث قد يكون قاسياً نوعاً ما. ولكن نوعاً من التفكير الإيجابي قد يكون مفيداً هنا؟ إن السؤال الذي يطرح نفسه هو مدى حاجتنا لتصميم مناهج كل عامين أو ثلاث لمواكبة التسارع غير المسبوق في المعرفة البشرية في ظل إمكانية بناء منهج قابل للتكيف والاستحداث والتطوير المتلازمين بين فينة وأخرى. في كثير من الأحيان فإن القرارات الصائبة تأتي من خلال إعادة التفكير في طريقة تناولنا للموضوعات المختلفة وليس في التغيير بحد ذاته. من الجيد ضرب مثال لتوضيح الصورة. هنالك الكثير من التربويين القديرون ممن يرون أن جزءاً كبيراً من المادة العلمية في مختلف المناهج يمكن اختزالها من خلال توصيل الفكرة الرئيسة وترك الباقي للتكنولوجيا لحله. على سبيل المثال: هل نحتاج في زمن التكنولوجيا إلى تعليم جدول الضرب والقسمة لمدة شهرين أو ٣ أم بإمكان تعليم أبنائنا وبناتنا مفهومي الضرب والقسمة خلال أسبوع واحد وتدريبهم على تطبيق العمليات الحسابية من خلال التكنولوجيا المتوفرة خلال أسبوع أو أقل؟ قس الأمر نفسه على الجدول الدوري أو أي مادة تتطلب الحفظ ويتوفر لها بديل إلكتروني. كما من الوقت نستطيع توفيره لتعليم المحتوى المتقدم؟ إن مثل هذا التساؤل يترك للمتخصصين للمناقشة فيكفيك أن تعلم أن مدى التطور الحاصل في مجال متخصص كتربية الموهوبين أو مجال عام كمناهج الرياضيات والعلوم قد تضاعف ٣ مرات في العشرين السنة الأخيرة، كما قد نشأت خلال ال٢٠ إلى ٣٠ سنة الماضية نظريات تفوق جميع ما تم نشره من نظريات تربوية منذ أن كتب جون ديوي أولى كتاباته عن التربية وعلم النفس قبل ما يزيد عن قرن من الزمن! أحد الأسئلة الكثيرة التي يطرحها هذا المقال هو جدوى تصميم وطباعة المناهج الدراسية في شكلها الحالي في ضوء التغير غير المسبوق في المعرفة.

نأتي الآن للحديث عن التحدي الثاني (تأثير التكنولوجيا على المخرجات التعليمية) خاصة ما بات يطلق عليه الآن بإدمان وسائل التواصل الاجتماعي. إن التأثير هنا مُركب فوسائل التواصل الاجتماعي والتي باتت المستخدم الأول لجيل الشباب تؤثر عليه وعلى النظام التعليمي ككل. خذ على سبيل المثال القيم التي تعمل وزارات التربية والتعليم على غرسها للطلبة منذ نعومة أضفارهم كالصدق والأمانة والنزاهة والتسامح والهوية وحب الوطن والمعرفة والاستقلالية الفكرية. كل هذه القيم وقيم أخرى يمكن زعزعتها في فترة قصيرة جداً وقد لا تكفي الشواهد لسردها هنا. كما أن هنالك مؤثرات غير مباشرة لوسائل التواصل الاجتماعي كالتسبب بالعزلة وبالتالي زيادة فرص الأمراض النفسية إضافة للنمذجة الخاطئة وربما الأخطر من هذا كله... نشر الفكر المتطرف. ليس ما أقترحه أبداً هو التخلي عن وسائل التواصل الاجتماعية وإنما دراسة هذه التأثيرات السلبية للتوصل لحلول إيجابية ومبدعة وهو أمر ممكن إن مددنا يد العون لبعضنا كتربويين وأولياء أمور ومسؤولين في المجتمع.

أخيراً، ما الذي نستطيع عمله في مستقبل غير قابل للتنبؤ؟ نحن هنا أكثر حاجة للرجوع إلى التاريخ فكل حضارة حملت مستقبلاً غير قابل للتنبؤ وكل حضارة سادت الأمم وأصبح لها شأن كانت لها مجموعة من المميزات قادتها لتبوء منصب الصدارة. أو بقول آخر، ما نجح تاريخياً في ثقافة ما هو سر النجاح في هذا المستقبل غير القابل للتنبؤ وهي عناصر مشتركة لم تختلف باختلاف التاريخ وهي: (١) التركيز على المعرفة المتقدمة، (٢) توظيف مهارات التفكير العليا وعلى رأسها الخيال، ومنظومة مُثلى القيم. قد يعتبر البعض مثل هذا كلاماً عاماً، ولكن بحسب الدراسات والبحوث التي أجراها العالم دين كيث سايمونتون، عالم القياس التاريخي، فإن كل حضارة من الحضارات الرئيسة كاليونانية والصينية واليابانية والإسلامية نشأت بسبب هذه العناصر وكذلك انتهت بانتهائها. إن المستقبل يبدأ من اليوم، أو ربما بدأ من الأمس فماذا نحن فاعلون؟